صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، للباحث السوري عبدالله حنا. يقوم الكتاب (22 فصلًا في 592 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) على محورين: صفحات من جميع الأحزاب السياسية في سورية في خلال مرحلة زمنية تمتد طوال القرن العشرين وتلامس مطالع القرن الحادي والعشرين؛ والأجواء الاجتماعية التي ساهمت في قيام هذه الأحزاب وصعودها وزوال بعضها.
خلفيات ورموز
في الفصل الأول، خلفيات الأحزاب السياسية مراحل تكوّنها، يبحث حنا في العوامل المؤثرة في تكوّن الأفكار وقيام الأحزاب في المشرق العربي، وهي العوامل الاقتصادية - الاجتماعية، والتأثيرات التراثية التي يقسمها بين تراث ماقبل الإسلام والتراث الإسلامي، والتأثيرات الخارجية الغربية الأوروبية الرأسمالية ثم الاشتراكية. ويتناول مراحل الحياة الحزبية: النهضة المتزامنة مع الإصلاحات العثمانية، ثورة الاتحاد والترقي، الانتداب الفرنسي، فجر الاستقلال، الوحدة بين سورية ومصر، عودة الجمهورية السورية، حكم البعث.
في الفصل الثاني، الأحزاب في أواخر العهد العثماني، يتناول الباحث الطرق الصوفية، أو أحزاب أيام زمان، والجمعيات والأحزاب السياسية بين عامي 1908 و1914، ثم يقدم نماذج من الخلفيات الاجتماعية (الطبقية) للحياة السياسية الحزبية قبل عام 1918.
في الفصل الثالث، رموز إسلامية نهضوية في مجابهة الاستبداد وأثيرها غير المنظور في تكوّن الأحزاب، يعرض حنا لبعض رموز التيار السلفي النهضوي في بلاد الشام وعددًا من المتنورين الإسلاميين الذين التقوا مع التيار السلفي النهضوي، وناضلوا ضدّ الاستبداد السلطاني، وسعوا مع التيارات النهضوية الأخرى إلى نقل سورية من ظلامات الجهل إلى معارج الرقي. وكان لهذه الرموز تأثير في تكوّن معظم الأحزاب وتطورها، كما ساهمت في تميّز حركة الإخوان في سورية، المتصفة باعتدالها وتعاملها السمح مع الأقليات الدينية، عن الحركة الأم في مصر ذات الاتجاه المتشدد.
هكذا تكونت
في الفصل الرابع، أجواء تكوّن الأحزاب، يتناول حنا الدولة الوطنية السورية بين عامي 1918 و1920 باعتبارها نقلة ملحمية نحو الدولة القومية الحديثة والمجتمع المدني، والانتداب الفرنسي الذي كان هدفه تشديد قبضة الرأسمالية الفرنسية ومؤسساتها على سورية ولبنان، لاستثمار خيرات هذه البلاد وفق الأسلوب الإمبريالي المعروف. وهنا يكمن الوجه المظلم للانتداب بصفته الوسيلة الأخف وطأة من وسائل الاستعمار. كما يبحث في الولاءات العشائرية والطائفية ونقيضها الانتماء إلى الوطن في بلاد الشام المقسَّمة، وفي ديالكتيك الثورات الوطنية (1919 – 1927) ضد الاستعمار، ثم صعود الوعي الوطني.
في الفصل الخامس، من أجواء تكوّن الأحزاب، يقدّم اليباحث أنموذجين عن أجواء تكوّن الأحزاب: الأول، ثورة إبراهيم هنانو الذي أصبح بعد الثورة من مؤسسي الكتلة الوطنية وأبرز قادتها؛ والثاني، الأجواء العشائرية في دير الزور، المدينة التجارية (شبه البرجوازية) وتأسيس الأحزاب في حضن تلك الأجواء.
في الفصل السادس، الأحزاب في عهد الانتداب الفرنسي، يعرض حنا لتشكّل حزبي الاستقلال والاتحاد السوري واللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، ثم حزب الشعب بزعامة عبد الرحمن الشهبندر، والكتلة الوطنية، وعصبة العمل القومي.
أما في الفصل السابع، الأحزاب في عهد الاستقلال الوطني، فيبحث المؤلف في مسيرة ثلاثة أحزاب أخرى، هي الحزب الوطني الذي كان تجمعًا سياسيًا للتجار وكبار الملاكّ وفئات أخرى، وحزب الشعب أو حزب كبار الملاك والبرجوازية الحلبية مطعّمًا بعدد من خريجي الجامعات الفرنسية، وحركة التحرير العربي.
قومي وإخوان وبعث
في الفصل الثامن، الحزب السوري القومي الاجتماعي (1932) وزعيمه أنطون سعادة، يتكلم حنا عن تأسيس هذا الحزب، ومبادئه، والمراحل السياسية التي مر بها، وطموح "الزعيم" سعادة إلى السلطة، وانضمام عدد من أبناء وجهاء العلويين إلى الحزب. يقول حنا أن انتشار الحزب في سورية كان بارزًا بين المسيحيين والعلويين، "ولم يحقق حضورًا ملحوظًا في أوساط واسعة من السنّة، بسبب علمانيته ووقوفه موقفًا ملتبسًا من العروبة المتداخلة مع الإسلام. وعرقلت انتشارَه المبالغةُ في الإصرار على النزعة السورية، ما أدى إلى ابتعاد أكثرية السكان المتجذّرة في أفئدتها فكرة العروبة، التي كانت تُعرض عن طمس فكرة العروبة لمصلحة القومية السورية الغريبة عنه".
في الفصل التاسع، الأخوان المسلمون، يتطرق المؤلف إلى السلفية بتياراتها المختلفة، وبينها السلفية التنويرية الساعية إلى إبراز الجانب العقلاني في الدين الاسلامي، وفتح باب الاجتهاد في تفسير أحكام الدين للتلاؤم مع حاجات العصر وضروراته، ومحاولة التوفيق بين النقل والعقل، وإصلاح أمر المسلمين بإعادتهم إلى الإسلام الصحيح والنقي من الخرافات والأوهام، وإطلاق الإسلام من عزلته التي فرضها الشيوخ المتحجرون. يشير حنا إلى أن حركة الإخوان المسلمين في مصر نهلت من سلفية صحراء نجد، في حين اتكأت حركة الإخوان المسلمين في سورية على السلفية النهضوية الشامية التي تلقفت أفكار محمد عبده وسلكت طريقها.
في الفصل العاشر، حزب البعث العربي، يتناول حنا سيرة هذا الحزب ومؤسسيه ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد، وصورة البعث الأولى التي قدمها أسعد الاسطواني وخالد الجندي، خصوصًا أن حياة هذا الأخير تعكس أمرين: تأثُر بعض أوساط البعث بالفكر القومي الألماني الذي حقق الوحدة الألمانية واستفادته من منجزاته لتحقيق الوحدة العربية؛ وتأثُر أوساط بعثية بالفكر الماركسي والسير على خطاه للوصول إلى الاشتراكية.
أحزاب وجمهوريات
في الفصل الحادي عشر، الحزب العربي الاشتراكي، يتناول حنا قيامة هذا الحزب المناهض للاقطاع، في أحضان الحركة الشعبية في مدينة حماة في أربعينيات القرن العشرين، على يد رجال دين متنورين من أمثال الشيخ أحمد الصابوني والشيخ عبد القادر عدي والشيخ سعيد الجابي.
في الفصل الثاني عشر، الحزب الشيوعي السوري: الصعود الهبوط، يتناول حنا المنطلقات النهضوية والأممية الثالثة التي أسست الحزب الشيوعي السوري في مراحله الأولى (1945-1924)، مؤرخًا لمسيرة خالد بكداش في الحزب (1955-1930) والمحطتين الحرجتين اللتين واجههما: قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وموافقة الاتحاد السوفياتي عليه، وإعلان بكداش باسم الحزب تأييده الموقف السوفياتي؛ والموقف من الوحدة والجمهورية العربية المتحدة.
في الفصل الثالث عشر، من الشخصيات الفكرية في الحياة الحزبية السورية، يتكلم حنا على عبد الرحمن الشهبندر النهضوي الوطني، وعبد الرحمن الكيّالي أحد قادة الكتلة الوطنية ورئيس الحزب الوطني، وعبد الوهاب حومد المثقف المستنير وعدنان الأتاسي القياديين في حزب الشعب، والأخوانيين نبيل الطويل وحسن هويدي، والمفكر البعثي جمال الأتاسي، والماركسيين بدر الدين السباعي وظهير عبد الصمد.
في الفصل الرابع عشر، الجمهوريات الثلاث: من عبد الناصر إلى حافظ الأسد، يؤرخ حنا للجمهورية العربية المتحدة (1961-1958)، ثم الجمهورية العربية السورية التي عادت إلى الحياة بحكم برلماني وحرية للأحزاب، ثم جمهورية البعث.
حياة حزبية
في الفصل الخامس عشر، العوامل المؤثرة في تحجيم الحراك السياسي الحزبي في الثلث الأخير من القرن العشرين، يبين حنا عوامل تراجع الحراك السياسي، كالتغيرات الاقتصادية الاجتماعية، والصعوبات التي اعترضت عملية إدارة القطاع العام، ودور المال النفطي في إحداث الأزمات وتعميقها، وتخلخل البنى الاجتماعية وهيمنة الفئات غير المنتجة على البلاد، وهزيمة 1967، وصعود الاسلام السياسي بعد عجز اليسار عن تحرير فلسطين وتحقيق العدل والمساواة الاجتماعية، والجزْر الشعبي التي شهدها المجتمع بعد مجزرة حماه (1983).
في الفصل السادس عشر، الحياة الحزبية بين الاستسلام للنظام الشمولي والاستمرار في رفع الراية، يقدّم المؤلف أنموذجين لشخصيتين عاشتا مرحلتي الصعود والهبوط، هما عبد العزيز عثمان وثابت عزاوي، وهما لا يمثلان حالة فريدة، بل يعكسان موقفًا لجمهرة واسعة من أعضاء الأحزاب السورية.
في الفصل السابع عشر، الأحزاب الشيوعية في عهد البعث، يبحث المؤلف في الحزب الشيوعي السوري وانقساماته، وتحول الحزب الشيوعي - المكتب السياسي إلى حزب الشعب الديمقراطي، ثم انطلاق رابطة العمل الشيوعي وتحولها إلى حزب نشط في صفوف الشباب المتحدر في معظمه من تجمعات ومناطق سكانية مؤيدة للعلمانية.
في الفصل الثامن عشر، أحزاب علمانية غير شيوعية ليست في السلطة، يتناول الباحث أحزاب أخرى مثل حزب العمال الثوري العربي الذي أسسه ياسين الحافظ في عام 1966 من مجموعة بعثية صغيرة منشقّة ومتأثّرة بالفكر الماركسي، ودعا إلى الديمقراطية العلمانية والحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية؛ وحركة الاشتراكيين العرب التي هي امتداد للحزب العربي الاشتراكي الذي اتحد مع حزب البعث في عام 1953؛ وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي؛ والاتحاد الاشتراكي العربي؛ وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي؛ والتجمع الوطني الديمقراطي.
إسلام سياسي... فثورة
في الفصل التاسع عشر، الإخوان المسلمون: تحركاتهم في جمهورية البعث، يفصّل الباحث الصراع بين النظام البعثي العلماني المستند إلى الشرائح الاجتماعية، التي استفادت من إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، والقوى المثقفة الراغبة في التطوير والتنمية من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين التي تخلت عن الخط المعتدل والوسطي، وسارت في طريق المجابهة المسلحة، مدفوعة بعوامل داخلية اقتصادية واجتماعية، وتأييد خارجي.
في الفصل العشرين، من المشهد الإسلامي في سورية في أواخر القرن العشرين ومستهل القرن الحادي العشرين، يسلط المؤلف الضوء على جوانب من أرضية الإسلام السياسي الذي أخذت تياراته وأحزابه تحتل مواقع مؤثرة في الأقطار العربية، وهو حلقة الوصل بين قرنين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، مختارًا موضوعات متنوعة هي بمنزلة خاتمة لحوادث القرن الماضي ومقدمة للقرن الحالي، كالجهاد في الإسلام، والسلفية الجهادية في سورية.
في الفصل الحادي والعشرين، الحجاب في سورية القرن العشرين علاقته غير المنظورة بالأحزاب السياسية، يتناول الباحث ظاهرتي الحجاب والسفور المرتبطتين بمرحلتين هزّتا المجتمعين المصري والشامي في القرن العشرين: صعود النهضة العربية وأحد شعاراتها تحرير المرأة والدعوة إلى السفور؛ صعود الإسلام السياسي وسعيه للعودة إلى حجاب المرأة.
أما الفصل الثاني والعشرون والأخير، "التحركات الشعبية".. "الثورة على النظام"، فهو استمرار ونتيجة للتطورات الجارية في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، من دون أن يخوض في مجاهل الدولة الأمنية والنظام، أو الدخول باب تفصيلات ما آلت إليه أوضاع المعارضة التي اتّسمت في بدايتها بنشاط القوى اليسارية والعلمانية، ثمّ سارت نحو اليمين وهيمن عليها أجنحة الإسلام السياسي.