في كتابه مسمّى العراق وتخومه في المدوّنات البهلوية – الساسانية: دراسة في التاريخ الثقافي والأيديولوجي للمفهوم، الصادر في سلسلة دفاتر "أسطور" عن مركز الأبحاث ودراسة السياسات، يحاول الباحث العراقي نصير الكعبي إعادة استيعاب مفهوم مرادفات مسمّى العراق وتخومه في حقبة تاريخية تصنف ضمن الحقب البرزخية لشروعها الزمني قبيل ظهور الإسلام، وامتدادها حتى الإسلام المبكر، من خلال فحص إحدى المدونات البهلوية، بعد إعادة ترتيب عناصرها وقراءة بنيتها النصية وتفكيك نسيجها الداخلي لإدراك مدلولاتها، بزجّ مجمل العناصر في سياقها التاريخي الذي تبلورت فيه، من خلال طرح سؤالين: ما هي تلك المسميات؟ وما حدودها الجغرافية في المدونات البهلوية - الساسانية؟
بين الإيحاء والأيديولوجيا
يقع الكتاب (111 صفحة بالقطع الصغير، موثقًا ومفهرسًا) في أربعة فصول. في الفصل الأول، سورستان وإيحاءات التخوم الملكية، يقول الكعبي إن أولى الإشارات الموثقة إلى مسمّى العراق في المصادر المادية البهلوية ترجع إلى النقوش الملكية الساسانية المبكرة، وعلى وجه التحديد نقش شابور الأول في كعبة زرادشت الذي ضرب في منتصف القرن الثالث الميلادي بثلاث لغات في الوقت ذاته (البهلوية والفرثية واليونانية) بعيد تأسيس الدولة بقليل، باحثًا في أصول تسمية سورستان التي سادت حينذاك للدلالة على أراضي العراق اليوم.
يختم الكعبي هذا الفصل بالقول: "سورستان لم تكن وصفًا مكانيًا حصريًا ملازمًا لتخوم جغرافية تتمدد وتتقلص تبعًا لمتغيرات سياسية للدولة، إنما تمثل رمزًا لشرعية الملكية وأيديولوجيتها في حكم دولة من النوع الإمبراطوري، حيث يخضع انزياحها المكاني إلى مقاصد الأيديولوجيا الملكية في ترسيخ حضورها الشرعي والرمزي".
في الفصل الثاني، أيديولوجيا المسمّى (الإمبراطورية)، يقول الباحث إنه عند محاولة تتبع الأبعاد الثقافية والأيديولوجية المتوارية في إصرار المصادر الكتابية الرسمية والأدبية للدولة الساسانية على الاستدعاء الدائم للفظ سورستان.
يلاحظ أن مدعاة ذلك تكمن في سببين رئيسين متعلقين بالطموح والفلسفة الإمبراطوريين ودعايتهما المرافقة المقاطعات الحيوية؛ "إذ تمثل سورستان مركزًا معنويًا وماديًا لإمبراطورية مترامية الأطراف، تدير أجزاءها كلها بوساطة تلك المقاطعة الملكية، ويأخذ العامل الأول منحىً إمبراطوريًا أيديولوجيًا صرفًا مرتبطًا بالطموحات الإمبراطورية إبان تأسيس الدولة ومد حدودها إلى ذلك الماضي، الإمبراطوري الأخميني بجغرافيته كلها الممتدة على معظم مساحات الشرق القديم ودوله؛ إذ أظهرت الادعاءات الساسانية الأولى منذ مرحلة الملك المؤسس أردشير أن توجه الدولة الحثيث نحو إعادة الاستطالة على تلك الأراضي وضمها واحتضانها من جديد بوصفها ميراثًا شرعيًا للساسانيين عمل يجب القيام به".
إيرانشهر... فعراق
في الفصل الثالث، دل إيرانشهر والكونية الزرادشتية، يقول الكعبي إن المدونات الدينية البهلوية والأفستائية تداولت في أواخر العصر الساساني صفة أخرى مرادفة لتسمية سورستان/العراق وتخومها، حيث أطلقت عليه تسمية دل إيرانشهر، واستعملتها كثيرًا المصادر البهلوية الدينية المتأخرة، وحل هذا المصطلح بشكل تقريبي محل لفظ سورستان.
بحسبه، مصطلح إيران مستلهم من الأيديولوجيا الزرادشتية الأفستائية، أخذ أصوله الأولى من الصيغة الأفستائية (Aryans) أي بلاد أو أراضي الآريين، وهو في بعض الأحيان لفظ إثنوجغرافي، استعمل أفستائيًا لتمييز مجتمع المؤمنين من أضدادهم، واستحضر ساسانيًا بوصفه جزءًا من أيديولوجية الدولة في مواجهة الهلنستية، حيث يختزن المصطلح، تاريخيًا، موروثًا ثقافيًا ودينيًا عميقًا تراكم عبر قرون عدة، وتمددت جغرافيته التخيلية ودلالاته المعنوية باختلاف أدواره وحقبه.
في الفصل الرابع، العراق: مكامن تواري المسمى وإشهاره، يجد الكعبي أن لفظ إيراك أو عراق البهلوية صفة جغرافية تطلق حصريًا على الأمكنة المنخفضة غير المرتفعة، وفي بعض من الأحيان على الجهات الجنوبية. ويرد اللفظ أكثر في وصف المناطق المنخفضة والجنوبية معًا، وتردده مصادر بهلوية كثيرة؛ إذ تحيل على هذا المعنى الجغرافي المجرد من تضمينات إضافية سوى الإحالة المكانية وجهاتها، فلم تكن لذلك الحضور مدلولات مغايرة لهذا المعنى.
يضيف: "اللافت في المعاني المرادفة التي قدمتها المعاجم العربية، بتصانيفها المختلفة، لتفسير لفظ العراق هو أنها تشير إلى الأمكنة الوسطية الواقعة في المنتصف؛ فالعراق لغويًا هو المنطقة الوسطى الواقعة بين البر والبحر، وهو كذلك تسمية رديفة لمنطقة فناء الدار وفسحته أو عرصته، فعراق الدار تعني وسطه".