تربط النصوص الأدبية الكلاسيكية والدراسات التاريخية والأثرية الحديثة نشوء حضارات الشرق القديم وتطوّرها بوجودها قرب ضفاف الأنهار الكبرى، مثل النيل ودجلة والفرات، بل إن مصر القديمة عند المؤرخ الإغريقي هيرودوتس هي "هِبة للنيل". فما مدى تطابق هذا النموذج الحضاري مع الشمال الأفريقي القديم؟ حاولنا البحث عن إجابة لهذا السؤال بالعودة إلى النصوص الكلاسيكية واللقى الأثرية، بدءًا من مرحلة ما قبل التاريخ، وصولًا إلى المرحلة الرومانية، بهدف الكشف عن حدود العلاقة الرابطة بين الماء واختيارات الاستقرار لدى السكان المحليين والأجانب المتردّدين على السواحل المتوسطية والأطلنطية للشمال الأفريقي. فاكتشفنا تفضيلًا كبيرًا للاستقرار قرب المنابع وضفاف الأنهار والبحيرات، للاستفادة منها في تطوير النشاطات الاقتصادية، مثل الفلاحة والصيد النهري وصُنع الأواني الخزفية وإعداد نقيع السمك، زيادة على التجارة والنقل والتنقل، من دون أن ننسى الاستخدامات المنزلية، مثل الشرب والطبخ والاستحمام.