فتحت مدرسة الحوليات الفرنسية في التاريخ آفاقًا جديدة أمام الباحثين، بسعيها لتجديد مناهج الكتابة التاريخية وأدواتها ومصادرها وإشكالاتها ومواضيعها، من خلال انفتاحها على العلوم الاجتماعية الأخرى. وكان هدف مؤسسيها كسر جمود المدرسة الوضعية التقليدية وقيودها، فانفتحت على حقول الاقتصاد وعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والديموغرافيا، وأغرقت في تحليل المعطيات الكمّية والإحصاءات بوصفها أدوات فعالة لتجسيد مشروعها التجديدي الذي أطلقه رائداها الأولان مارك بلوك ولوسيان فيفر، والذي واصله ورسّخ أسسه فرنان برودال وإرنست لابروس، وحاولا بعث نَفَس جديد فيه أقطاب "التاريخ الجديد". كان ثمن النجاح على الساحة الأكاديمية الفرنسية أزمة هوية التاريخ بوصفه "علمًا" مستقلًا بذاته، بعد أن بدا كأنه يذوب في علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والديموغرافيا التي حاول تسخيرها لفائدته. تتناول الدراسة هذه التجربة التاريخية الفريدة من نوعها، التي هيمنت على البحث التاريخي في فرنسا قرابة قرن من الزمن، بالرجوع إلى فترات تطورها وأجيالها المتعاقبة والشخصيات البارزة التي كان لها دور مهمّ في أطوار التأسيس والترسيخ ومحاولة التجديد والأزمة. وتُختَتم ببيان أهم خصائص مدرسة الحوليات الفرنسية وإضافاتها إلى البحث التاريخي. ننشر هنا القسم الثاني من الدراسة، وكنا قد نشرنا قسمها الأول في العدد الرابع عشر من دورية أسطور.