يُعدّ الخطاب الإنسانوي خطابًا غربيًّا مثّل أحد مُخرجات الحداثة التي انطلقت منذ عصر التنوير. وبعد النقد الجذري المتعدد المشارب الذي شمل الحداثة فكشف عن مآزقها وأوهامها وتناقضاتها، بدأ يتشكل نمط تفكير آخر متحرر من المفاهيم والتصورات القديمة ويعطي أهمية للمختلف والهامشي والمُقصى والمسكوت عنه. وقد أدى النقد الفلسفي للإنسانوية بأشكاله المختلفة إلى إعادة التفكير في الإنساني بوساطة مفاهيم ومقولات جديدة، تتلاءم مع طبيعة التحوّلات المعرفية والتقنية والاجتماعية التي عرفتها البشرية في الحقبة المعاصرة. وفي هذا السياق طُرح مفهوم "ما بعد الإنسانوية" بوصفه مفهومًا ما بعد حداثي. لم يهمل الخطاب ما بعد الإنسانوي التفكير في الإنسان، ولكنه أعاد طرح السؤال الأنثروبولوجى، وصاغ أجوبة طريفة، موظفًا مفاهيم وتصورات جديدة. وقد كان على الفكر ما بعد الإنسانوي أن يضطلع بالمشكلات التي طرحتها فلسفة "عبر الإنسانية"، بما هي فلسفة تراهن على تغيير الكائن الإنساني بطريقة جذرية بوساطة العلم - التقنية. نروم في هذا البحث تحديد قيمة الإنسانوية (النزعة الإنسانية) من خلال إعادة النظر في تحولات الخطاب الإنسانوي. ورهاننا من وراء التفكير في صياغات سؤال الإنسان والأجوبة المُتباينة التي قُدمت عنه هو التأكيد على أهمية أنثروبولوجيا فلسفية من شأنها الاضطلاع بالمشكلات التي تطرحها فلسفة ما بعد الإنسانوية في صيغها المختلفة.