صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب العلاقات العربية - التركية (1918-1923): السيرورة والتاريخ والمصائر. ويشتمل هذا الكتاب على واحد وأربعين فصلًا تتوزّع على سبعة أقسام، وتتمحور جميعها حول العلاقات العربية - العثمانية التركية، والمراحل التاريخية الغامضة فيها، والمراحل التي لم تحظَ ببحث كافٍ من الدراسة العلمية، أو التي نالها التحريف لأسباب عديدة. حرّر مادة الكتاب الباحث جمال باروت، وهو كتاب يقع في 872 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
التحدي أمام الباحثين المجددين
في إثر انهيار الدولة العثمانية، خلّفت دراسات "الشرق الأوسط الحديث" مكتبةً ضخمة، تمركزت معظم كتبها حول بحوث تتعلق بمجرى العلاقات العربية - التركية. وهذه الدراسات اليوم بمزلة "نقطة إحباط" بالنسبة إلى الباحثين الجدد في التاريخ الوسيط لهذه المنطقة، وهو إحباط منبعه شعورهم بإمكان اجترارهم ما كُتب في جنبات مؤلفات هذه المكتبة، والإتيان بمعلومات "مُدوّرة" في الحالات التي لا يُبذل فيها جهد غير عادي لإضافة معالجاتٍ بحثية جديدة وجدّية. ويمكن التمييز، افتراضيًّا، بين التاريخين العام والخاص لنشوء "الشرق الأوسط الحديث"، وفيه لا تزال العلاقات العربية - التركية تتطلب مزيدًا من التعرّف والبحث، بخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى حتى تصفية الدولة العثمانية قانونيًّا في معاهدة لوزان (1923)؛ وبدقة أكبر، في سنوات التحول الكبير الخمس (1918-1923)، وذلك في إثر نهاية الحرب وبداية "عاصفة" تكوُّن النظام الدولي الجديد التي شهدت توقيع عدة اتفاقيات، انطلاقًا من اتفاقية الهدنة في مودروس (1918) بين الحلفاء والدولة العثمانية، وصولًا إلى معاهدة لوزان. فمع الاتفاقية الأولى، انهارت إمبراطوريات أربع مع سلالاتها بعد أن ساد اعتقاد قوي مفاده أنها لن تعرف الانهيار (الروسية القيصرية وحكامها آل رومانوف الذين مثلوا الكنيسة البيزنطية القسطنطينية، والألمانية التي حكمتها عدة سلالات كانت أخيرتَها مع الإمبراطور الأخير فيلهلم الثاني، والنمساوية - المجرية وحكامها من آل هابسبورغ ورثة سيادة الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، ثم العثمانية وسلاطنتها من آل عثمان ورثة الخلافة في العالم الإسلامي في مقابل بابوية روما). وقد عَقدت معاهدة فرساي (1919) من جانب الحلفاء المنتصرين في الحرب اتفاقياتٍ منفصلةً في مؤتمر الصلح مع كل من المهزومين في: دول الرايخ الألماني، والإمبراطورية النمساوية - المجرية، والدولة العثمانية، ومملكة بلغاريا، ولكن وُقعت معاهدة أخرى للصلح مع الدولة العثمانية في سيفر (1920)، تلاها مؤتمر لوزان (في الفترة 1922-1923) من أجل إلغائها بعد أن رفضتها حكومة أتاتورك، وفيه وافق الأتراك على إلغاء السلطنة وإعلان تركيا جمهورية رئيسها مصطفى كمال أتاتورك، ومن ثمّ انتهى تاريخ الصراعات حول "المسألة الشرقية"، أو مسألة الشرق الأوسط والتنافس العنيف حوله في مجالات السياسة والاقتصاد والدين، وقَسَّمت الدول الأوروبية ممتلكات الشرق العثمانية، وخصوصًا الولايات العربية العثمانية في الشام والعراق، التي لم يتبق للدولة العثمانية سواها، مع الحجاز واليمن، بعد أن نصّت تفاهمات واتفاقيات عثمانية - بريطانية قبل الحرب (في تموز/ يوليو 1913-آذار/ مارس 1914) متعلقة بتنازل الدولة العثمانية عن "حقوقها" في مصر وقطر والبحرين وحضرموت وعدن والمحميات السبع، ولم تبقَ تحت سيادتها اسميًّا ورمزيًّا إلّا الكويت، من دون الحق في التدخل في أي شأن من شؤونها، وأنشأت بريطانيا وفرنسا بدلًا من هذه "الممتلكات الضائعة" دولًا إقليمية تحت سلطة انتداباتهما.
تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية
من الناحية الديموغرافية، تشكّلت في أراضي الدولة العثمانية في الفترة 1913-1914، قبل دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا، ما يمكن تسميته "آسيا العثمانية"، وهي جزء من آسيا ازدادت فيه نسبة العرب والأرمن مقارنةً بإجمالي عدد السكان ازديادًا كبيرًا، واقتسمت دول أوروبية خمس (روسيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) النفوذ في هذه المنطقة باتفاقيات مع الحكومة العثمانية بقيت سرية حتى عام 1951، وقد كشف عنها حكمت بابور في كتابه الانقلاب التركي، وبموجبها تكرّست مناطق نفوذ اقتصادي مدعّم بنظام امتيازات لهذه الدول، إلا أن انخراط تركيا في الحرب "خلط الأوراق"، فاقتسمت قوتان فقط من القوى الخمس، من خلال اتفاقية سايكس – بيكو، ما كان للدول الأخرى.
ومع توقيع معاهدة لوزان وتصفية الخلافة العثمانية قانونيًّا، انتهت العلاقات العربية - العثمانية في مرحلة السنوات الخمس العاصفة، ونشأ الشرق الأوسط الحديث، وفي القلب منه البلاد العربية، التي استقلت ثلاثة بلدان منها عن الدولة العثمانية من دون أن تتعرض لاحتلال أجنبي مباشر، وهي: الحجاز ونجد واليمن (الشمالي). أما البلاد العربية الأخرى، فلم تنفصل عن الدولة العثمانية انفصالًا قانونيًّا تامًّا (بموجب معاهدة لوزان) إلا بعد احتلالها المباشر من دول أوروبية، ليبدأ فصلٌ جديد مفاده انتقال العلاقات العربية - العثمانية إلى علاقات بين دول متجاورة إقليمية، وغدُوّ الرابطة الإسلامية مجرد "متحف تاريخي"، وغدُوّ استعادة الخلافة أمرًا ميؤوسًا منه، في حين بدأ في بلاد الشام والعراق عصر جديد من العلاقات بين أوروبا الاستعمارية والبلدان العربية انطلقت فيه حركات للتحرر الوطني مهدت لاستقلال شعوب الشرق.
وقد ساد في كل من دول "الإقليم" الجديد (دولة تركيا الجديدة، والدول العربية الجديدة في آسيا العربية) سرديات لتاريخ العلاقات العربية - التركية الاستقطاب والعداء على نحو أدهش بعض المؤرخين "الجدد" وأساتذة التاريخ العربي الحديث، وذلك حين عاينوا طلبتهم يحملون، حتى في سنة التخرج، آراءً غريبة عن العلاقة بين الأمتين، متصوِّرين - أو صُوّر لهم - أن هذه العلاقة كانت "تعسة"، وأنها أضرت بالعرب ومنعت تقدمهم، بل أخّرتهم، وذلك في مرحلة رَسَخ فيها وهم "الاستعمار العثماني". من ناحية أخرى، سعى المؤرخون الجدد إلى تكريس نظرة تاريخية حديثة إلى الدولة العثمانية خارج ذلك الوهم، وإثبات أن وجهة النظر هذه صاغتها الأيديولوجيات القومية العربية والتركية في مرحلة ما بعد نشوء الدول الإقليمية؛ ما ساهم في طمس التاريخ التشابكي بين الطرفين لمصلحة تاريخ قومي ضيق فيه قليل من الحقائق وكثير من الأوهام. فخلال الثورة العربية التي كانت ضد حكومة الاتحاديين وليس ضد الدولة العثمانية، تأججت العلاقات العدائية العربية - التركية، ولا سيما بعد أخدود الدم الذي حفره أحمد جمال باشا الملقب بـ "السفاح". لكن خلال فترة قصيرة، بعد انكشاف وعود الغرب للحركة العربية عن سراب فحسب، حضرت محاولات التفاهم ورأب الصدع بين الأمتين لمواجهة سعي الغرب إلى تقسيم آسيا، وهي محاولات ليست عربية فحسب، بل عثمانية أيضًا، وقد انخرط فيها حتى الشريف الحسين نفسه، وهو الذي تعرّض لحملات من التشويه والتجريم بلغت حدَّ اتهامه بالردة عن الإسلام بعد إعلان الثورة العربية، وبذلك تقلصت الفجوة بينه وبين الأتراك، وهو الأمر الذي لم تعتن به الدراسات التاريخية، بل يمكن القول إنّه طُمس كليًّا.
"السنوات الخمس" المصيرية
تسمح "مرحلة السنوات الخمس" بتحويلها وحدة "مكتملة" للدراسة التاريخية، فزمنها رغم قِصَرِه "سريع" بالمتغيرات، تتكثف فيه أحداث أزمنة بعيدة وقريبة زاخرة بالوقائع والأفكار الجديدة والتحولات السياسية والاجتماعية التي أنذرت بتطورات لاحقة، في وقت كان فيه العالم يتحول جذريًّا من نظام الإمبراطوريات إلى نظام الدول الإقليمية، وفَصَل ما قبله عمّا بعده، وانعكست آثاره على المنتصرين والمهزومين معًا، وشهد في آسيا العثمانية (التركية - العربية) تطورات مصيرية ستكون في كتابنا العلاقات العربية - التركية (1918-1923) ميدانًا لدراسة تتجنّب الإيستوريوغرافيات الأيديولوجية القومية التركية المتأثرة بالأطروحة الكمالية للتاريخ التركي، وكذلك العربية المنطلقة من أطروحة التاريخ القومي العربي، والمعتبِرة التاريخ العثماني تاريخَ نير استعماري، والتي لا تزال سردياتها موضع جدل مرير على الرغم من انحلال الرابطة العثمانية.
وقد رسَّخت التنميطَ الهوياتي القومي في ذاكرة العرب الجمعيةِ مناهجُ مدرسية أهملت تدريس محاولات رأب الصدع والإصلاح في العلاقات العربية - التركية، وصولًا إلى تصور دولة كونفدرالية تجمع بين تركيا والبلاد العربية بعد استقلال الطرفين، وهو ما يعمل هذا الكتاب، في خطٍّ معاكس للنظرة السائدة، على تبيانه في مرحلة "السنوات الخمس"، التي ساهمت سرديات الدول القومية فيها في إسباغ صفتَي التصدع والاستقطاب على العلاقاتِ العربية - التركية، على الرغم من محاولات بعض الكتابات الحديثة - تركيًّا وعربيًّا - تجاوُزَ إرث الإدانات السابقة المتمثلة في وصم القوميين الأتراك الحركة العربية بأنها "خائنة"، ووصم القوميين العرب العثمانيين بأنهم "مستعمِرون".
ومع ظهور نزعة عالمية إلى فتح الأرشيفات الوطنية للباحثين على نحو واسع النطاق، بما في ذلك الأرشيف العثماني الضخم، والوصول إلى وثائق فيه لم يطّلع الباحثون عليها من قبل، غدا المؤرخ الحديثُ "محظوظًا" مقارنةً بالمؤرخين السابقين؛ فالحقائق الجديدة المتاحة فتحت الميدان واسعًا للتحليل بأنماط تفكير مختلفة، ومن ثمّ تأريخها، وهذا من شأنه إعادة بناء السردية التاريخية السابقة وسد ثغراتها المعرفية والتحليلية.
مراحل من التفاهمات العربية - التركية
يركّز الكتاب على "التفاهمات" العربية - التركية، ويقارن بين تطورات حركتَي الاستقلال العربية والتركية الكمالية والتفاعل بينهما قبل نشوء الدول الإقليمية في أربع مراحل تاريخية هي:
المرحلة الأولى: في عام 1917، وبحسب اتفاقية سايكس – بيكو، جرى اقتسام آسيا التركية - العربية، ولكن القوات الفرنسية حلّت محلّ القوات البريطانية، في إثر تعديل الاتفاقية (اتفاقية جورج – كليمنصو) في غرب خط سايكس - بيكو، ومعها يمكن تأريخ بدء "التعاون" العربي - التركي الحقيقي الذي تمثَّل خاصةً في مبادرة أحمد جمال باشا في الربع الأخير من عام 1917، وفي ثمانية أشهر من المراسلات (من شباط/ فبراير إلى أيلول/ سبتمبر 1918، أي إلى ما قبل شهرين من انتهاء الحرب العالمية الأولى) بين فيصل بن الحسين وجمال باشا المرسيني حول اتفاق صلح عربي – تركي، وتواصُل مساعي الصلح تلك ومبادراته بعد نهاية الحرب حتى تموز/ يوليو 1920، مرورًا بمؤتمر الصلح عام 1919 واقتسام الحلفاء الولايات العربية في الدولة العثمانية. ومن ضمن تلك المساعي الاتصالات غير المباشرة التي أفضت إلى "اتفاق فيصل - مصطفى كمال" (الذي وُضع ولم يوقَّع، وقد كان حتى عام 1985 أمرًا مجهولًا)، الذي يمكّن من القول إنّ ثورة العرب، استنادًا إلى الفكر الفيصلي، لم تكن على الدولة العثمانية، بل على حكومة الاتحاد والترقي من جهة، وإنّ العرب لا يزالون يعتبرون أنفسهم في إطار الرابطة العثمانية التي كانت الخلافةُ لا تزال عروتها الوثقى من جهة أخرى.
ورغم اهتمام عدة دراسات بمبادرة أحمد جمال باشا، فإنها أهملت دراسة مشروع اتفاق المرسيني – فيصل، باستثناء دراسة لأمين سعيد توسّع فيها، ونشر مراسلات الاتفاق، في حين لم يحظ مشروع "اتفاق فيصل - مصطفى كمال" إلّا بدراسة واحدة لعبد الكريم رافق، وقد تناولها الباحثون الأتراك في عديد الدراسات، ومنها دراسة لسينا أقشين، ودراسة أخرى لهادية يلماز، ودراستان مهمتان جدًّا لفاضل بيات باللغة العربية، وألب ينين. وإضافة إلى هذه الدراسات، لا بد من الإشارة إلى مقالة مهمة جدًّا لأليعازر توبر، المتخصص في تاريخ تشكل سورية والعراق في تلك الفترة، وكان أول الباحثين الذين اعتمدوا منهجية التاريخ الشفوي. ولكن لا تُعتبَر هذه الدراسات كافية؛ إذ لا بد من عملية نقد الوثيقة ومعلومتها على المستويين الداخلي والخارجي، وقد أفرد كتاب العلاقات العربية - التركية (1918-1923) فصلًا في هذا الشأن، يستنتج فيه أن مشروع الاتفاق فتح أُفقًا لأوّل سعي عربي - تركي كمالي حقيقي بعد "اتفاق الاستبدال" (اتفاقية جورج - كليمنصو) لتوحيد الجهد ضد العدو الفرنسي المشترك.
المرحلة الثانية: تنحصر زمنيًّا بين "اتفاق الاستبدال" واحتلال فرنسا المباشر لدمشق والقضاء على الحكومة العربية فيها (1920)، مع تكريس أتاتورك قائدًا لحركة المقاومة الأناضولية في مؤتمرَي أرضروم وسيواس، وتعبئة الحكومة العربية الجماهير ووقوفها خلف حرب العصابات ضد القوات الفرنسية في لبنان، وتطور العلاقات مع الكماليين إلى درجة قيام جبهة حرب عصابات كمالية - سورية مزدوجة، في علاقات أكثر من براغماتية وأقل من استراتيجية، رافقها قيام "العهديين" في سورية بتنظيم هجمات ضد القوات البريطانية في العراق، وتطور الاتصالات بين "العربية الفتاة" و"جمعية العهد" العراقية (ضمّت ضباطًا كبارًا في الجيش العربي) من جهة، والكماليين من جهة أخرى، وقد شكّلت عملياتهم في العراق مقدمةً لاندلاع ثورة العشرين، التي ربما كانت أحدَ أبرز عوامل إتاحة بريطانيا للفرنسيين الاحتلال المباشر.
وقد أفرد الكتاب فصلًا مطوَّلًا للحديث عن ياسين طه الهاشمي، وهو الشخصية المركزية في العلاقات العربية - التركية المبكرة، والتي لم يخلُ مبحث متعلق بالحكومة العربية من الإشارة إليها، كما هو الشأن في مذكرات يوسف السعدون، وإبراهيم الشغوري (لا تزال مخطوطة)، وأحمد قدري، ومحمد عزة دروزة، وتحسين العسكري، ويوسف الحكيم، وجميل إبراهيم باشا، وفي يوميات رستم حيدر، ونبيه العظمة، وفي ما كتبه حيدر سعيد في جريدة المفيد، وشاكر نعمت الشعباني في جريدة الأهالي، وساطع الحصري في كتاب توسع في نشر نصوص مراسلات لم تشر إليها الدراسات التركية مع حكومة المجلس الوطني الكبير وردّ المجلس عليها بإبداء الاستعداد للتعاون الإيجابي مع فيصل في سورية.
وتبرز مشكلةٌ في هذه المذكرات متمثلة في عدم ذكر التطور الإيجابي في علاقات الملك حسين والكماليين بعد نهاية الحرب إلا في "شذرات" يمكن أن تكون يقينية أو مزيفة، غير أن نقدها داخليًّا وخارجيًّا، وفهم سياقها التاريخي بعمق، ومقارنة المعلومات المتعددة والمتواترة حولها، يسمح كلّه بفهم أوسع لما تختزنه من تاريخ، فقد دُوّنت معظم هذه المذكرات في زمن كانت فيه العلاقة مع الأتراك من قبيل "التهمة"، وخصوصًا بعد أزمة لواء إسكندرون (1939)؛ ما دفع أصحابَها إلى تدوين الحد الأدنى منها تدوينًا غامضًا.
ويضاف إلى المذكرات المعلومات الغنية جدًّا في جرائد المصباح الحلبية، والمفيد، والأهالي، بعد الاحتلال الفرنسي، التي لم يستخدم المؤرخون السوريون والعرب فيها إلا نزرًا محدودًا جدًّا منها، إضافة إلى تلخيص يوميات حلب لعينتابي وعثمان، وتحليلات لفيليب خوري وجيمس غيلفين أمدتنا بمعلومات كثيرة عن جمعية الأنصار الكمالية الحلبية وجمعيتها العلنية، الجمعية الوطنية الديموقراطية، والتاريخ الاجتماعي - السياسي لحلب وشمال سورية.
أما نشر سعد أبو دية أوراق الأمير زيد المجهولة، التي – للأسف - لم تحقَّق وفق الأصول، رغم أهميتها الشديدة المستمدّة من غزارة معلوماتها عن برقيات الأمير زيد بن الحسين بن علي، والإجابات عنها بشأن ميدانَي الشمال وأورفة مع "الجبهة الكمالية لحرب العصابات"، فإنها تكشف لمن يعرف سياقها التاريخي كثيرًا من غموض بعض تاريخ سورية. وقد أضاف إليها خطابات جديدة لمصطفى كمال في الجلسات المغلقة للمجلس الوطني الكبير غير التي ذكرها يلماز وأقشين وينين وبيات. واعتمد أبو دية في الحصول على بعضها وترجمتها لكتابه على كمال خوجة الذي استخرجها من الأرشيف العثماني. إن ما نعرفه من هذه الوثائق قليل مقارنةً بحجمها الذي لم يُنشر معظمه، فأرشيف العلاقات الخارجية العثماني يحتوي على مئة مليون وثيقة، ويزيد عدد دفاتره وسجلاته على 375 ألفًا، وهو قيد الرقمنة حاليًّا.
تندرج في هذا السياق المحفوظات البريطانية والفرنسية وما ذُكر فيها عن "مراسلات فيصل - غورو" التي جمعها جورج كرم باللغتين الفرنسية والعربية، اعتمادًا على أرشيف غورو الشخصي والأرشيف الرسمي، وهي تتقاطع مع ما نشره سليمان موسى في المراسلات التاريخية، غير أنها أغزر، وقد أبرزت قلقَ غورو من علاقاته بالكمالية وعدم قدرته على فتح جبهتَي قتال، والمخاوفَ الفرنسية - البريطانية من تحالف محتمل بين فيصل والكماليين، وقابليةَ فيصل للتعامل الإيجابي مع حركة "الاتحاد الإسلامي"، ثم إبداءَه قابلية للانخراط في السياسة الشرقية التي يقودها البلاشفة على أن يكون للعرب موقع فيها، وهذه أبعاد لم تَرِد في الدراسات العربية إلا لمامًا وما زالت تتطلب الدرس والتحليل، وهو هدف الكتاب.
المرحلة الثالثة: بين أيلول/ سبتمبر 1920 وآب/ أغسطس 1921، حين أسفر اتفاق إبراهيم هنانو وصلاح الدين عادل عن اندلاع ثورة الشمال السوري وفتح الكماليين بالتزامن، في إثر التقدم الفرنسي في كيليكيا، الجبهةَ الجنوبية تحت راية عربية - تركية واحدة. إلا أن الكماليين لم يلبثوا، في إثر توقيعهم اتفاقية سلام تركية - فرنسية في تشرين الأول 1921 عُرفت بـ "اتفاقية أنقرة"، أن قطعوا دعمهم لثورة الشمال لتنهار جبهاتها. وقد دوّن الفاعلون الكماليون الذين أدَّوا أدوارًا مهمة في التحالف السوري - الكمالي ضد الفرنسيين، مثل قلج علي وأوزدمير، مذكرات تجاهلوا فيها ذكر التحالفات الميدانية بين المجاميع التي قادوها ومجاميع السوريين والعهديين في حرب الاستقلال، وهذا كلّه ممّا لم يفت الكتاب ذكره.
ولجأت مذكرات ضباط عهديين عراقيين عملوا في سورية، مثل تحسين علي وعلي جودت، ومذكرات السعدون والشغوري وجميل إبراهيم باشا في "مركز الوثائق التاريخية" بدمشق، إلى التقليل من قيمة المساعدة الكمالية بسبب بلوغ العلاقات السورية - التركية وقتَها ذروة توترها على خلفية الصراع حول مشروع حلف بغداد، وخلفية الاتهامات لثورة الشمال بأنها في مصلحة الأتراك، ولجأت كذلك إلى ادعاء أن القوة الكمالية التركية كانت للاستعراض، وأن هنانو استقبلها لتقوية معنويات الأهالي، لا للاعتماد عليها عسكريًّا، بينما كانت تلك القوة في الحقيقة رافدًا قتاليًّا أساسيًّا في عمليات الثورة، ويشهد على ذلك "بارقات" في ورقة فوزي القاوقجي، ومذكرات عبد الرحمن الشهبندر، وبعض يوميات نبيه العظمة على نحو أكثر توسعًا، أما مذكرات فخري البارودي، مرافق الملك فيصل، ففيها انقطاع بين نهاية الفترة العثمانية وعام 1930، في حين لا تشمل أوراق نسيب البكري إلا "مرحلة 1926-1964"، ولم يصل إلينا أي شيء من يوميات سعد الله الجابري. وقد وردت في كتاب أدهم آل جندي تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي إشارات إلى دور الكماليين في الثورة، استنادًا إلى مقابلات ومذكرات، منها مذكرات نجيب عويد المفقودة.
أما ثورة الشمال، فقد ظهرت في شأنها أبحاث لفيليب خوري، وعبد الكريم رافق، ونادين المعوشي التي استأنفت دراسة مرحلة الانتداب الفرنسي على سورية بعد أن أُهملت فترة. وفي فرنسا، اعتمدت دراسة لجان دافيد مزراحي على دراسة المحفوظات الاستخبارية الفرنسية وتحليلها.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة دخول الحجاز في اتصالات غير مباشرة مع الكماليين عبر رسل "حركة الاتحاد الإسلامي"، تزامنًا مع التوتر الشديد في العلاقات الحجازية - البريطانية، وتطورها إلى علاقات مباشِرة مع انعقاد مؤتمر لوزان، وقد تمثلت في تبادل رسائل في المؤتمر بين عصمت باشا والملك حسين حول الصلح العربي - التركي واعتراف تركيا باستقلال العرب، لتنقطع هذه العلاقات بعد المؤتمر وتصير "عدائية". ونظر الكتاب في هذه المرحلة التاريخية على نحو تفصيلي، لكونها مطموسة في الكتابات التاريخية العربية الحديثة، وتوسّع في تحليل نشاط حركة الاتحاد، هادفًا إلى سد ثغرة كبيرة في المكتبة التاريخية السورية التي لا تأتي مصادرها على ذكرها إلا بإشارة مبتسَرة، في فتوى مفتي الحركة التي نشرها هنانو مع بيانه إعلان ثورة الشمال، ونعني بذلك كتاب أدهم آل جندي، الذي يتوسع في ذكر دور قائد الحركة أحمد الشريف السنوسي ونشاطه لمصلحة الكماليين في سورية، في ضوء الأرشيفات البريطانية والفرنسية والبلاغات الرسمية الفرنسية في الصحف السورية، وهو ما تهرّب منه كثير من مؤرخي سيرة السنوسي بعد إلغاء مصطفى كمال الخلافة، وفي مقدمهم شكيب أرسلان، الذي اكتفى بالإشارة إلى خروج السنوسي من تركيا بعد خلع عبد المجيد الثاني وإلغاء الخلافة، مع عدم ذكر عمله رئيسًا للحركة ونشاطه في سورية خلال مرحلة حرب الاستقلال التركية.
تتجاهل الدراسات العربية مرحلة العلاقات الحجازية - التركية، على الرغم من المصادر الأرشيفية الوافرة عنها، ولا سيما في المحفوظات البريطانية التي اطلع عليها جيدًا أبرز مؤرخي الحركة العربية، سليمان موسى، لكنه لم يكترث بها، لأنها لا تناسب وجهة نظره القومية الأيديولوجية. ولم يأتِ جورج أنطونيوس أيضًا، الذي اهتم بتفصيل العلاقات المتوترة بين الحسين والبريطانيين، على ذكر العلاقات بين الحجاز والكماليين، وربما كان ذلك بسبب إغلاق الأرشيف في ذلك الوقت.
صحيح أن التطرق إلى العلاقات الحجازية - التركية المطموسة والمغيبة لم يحدث إلّا في وقت متأخر، لكن لا بد من تأريخ هذه العلاقات، ولا سيما أننا نعرف من المحفوظات البريطانية بتحقيق فتحي صفوة، ومن الرسائل بين شكيب أرسلان والشيخ رشيد رضا، أمرًا مهمًّا جدًّا يتعلق باتصالات وفد لجنة المؤتمر السوري - الفلسطيني مع الوفد التركي الكمالي على هامش مؤتمر لوزان، ورغم ذلك شغلت هذه الاتصالات حيزًا ضيقًا في كتاب أمين سعيد الوفد ومؤتمر لوزان. ولا بد من الإشارة إلى مفارقة مهمة في هذا السياق؛ فمع تخلّي فيصل والأمير عبد الله عن القضية السورية والعلاقة مع الكماليين بتحسّن فرصة فوز كليهما بعرش العراق وإمارة الشرق العربي (شرق الأردن)، بدأ الحسين في تطوير اتصالاته بهما.
يعيد كتاب العلاقات العربية - التركية (1918-1923) بناء حوادث معقدة عبر الغوص في "كومة" من شتات المصادر وقراءتها في سياقاتها وشروطها التاريخية المحددة، وإرغاماتها ورهاناتها في عالم يتحول بسرعة، ويعمل من أجل بنائها على الإجابة عن عدة أسئلة، من قبيل: ما الذي حصل؟ وكيف؟ وما الظروف والملابسات التي وقعت في هذه المرحلة أو تلك من الماضي؟ ويراعي الكتاب في بناء الأحداث التتالي الزمني، بهدف إبراز ديناميكية الحركة التاريخية، وفهم العلاقة السببية بين المتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة، مع بعض "القفزات" إلى الوراء وإلى الأمام القريبَين، مستبعدًا ما كان بعيدًا من ذلك، إلا ما كان استبعاده غير ممكن.