صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الجزء الثاني من كتاب: التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011-2020، وهو بعنوان: المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية من سورية، من تأليف سامر بكور (للاطلاع على ملخص الجزء الأول: المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية من سورية). يسلط الكتابُ الضوءَ على الصراع الداخلي بين أطراف الحرب الأهلية، وعلى علاقات المد والجزر بين الدولة الأم وسلطات الأمر الواقع، كما يركز على بحث أسباب خسارة التنظيمات المسلحة في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية الأراضيَ الواسعة التي كانت سيطرت عليها، واستعادة النظام أجزاء منها. يقع الكتاب في 424 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
إن من أهمِّ نظريات العلاقات الدولية في عالم الواقعية النموذجيةِ علاقةَ الدولة بالحرب، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها محور هذه النظريات، فهي تَعتبر الصراع من أجل السيطرة وتشكيل الدولة خاصية طبيعية لجميع البشر. في المنطقتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، وفي نظرة إلى نماذج تجاذب القوى التي هيمنت عليهما، تظهر لنا بوضوح فرضية تشارلز تيلي Charles Tilly في بناء الدولة، التي تقول: إن "الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب". ويُعرِّف ماكس فيبر Max Weberالدولة بأنها "رابطة حاكمة تدّعي احتكار القوة المشروعة لتنفيذ القوانين"، وهو تعريف مهم؛ إذ يُظهر أولوية الدولة في ممارسة الحرب باحتكار القوة. وفي السياق نفسه يقول كارل كلاوزفيتس Carl Clausewitz: إن "الحرب استمرار للسياسة، ولتهديد الفاعلين الدوليين بالحرب تأثير كبير في المعارك السياسية لضمان استمرارية الحكم والسلطة". وحدّد غيورغ يلينيك Georg Jellinekعدة عوامل نظرية للوفاء بمعايير الدولة واستمراريتها؛ هي: السكان والإقليم المحدد والسلطة والقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى. أما جايمس كير-ليندسي James Ker-Lindsay فناقش تغيير قادة سلطة الأمر الواقع سياساتِهم تجاه الدولة الأم، ومشاركتهم إياها دون مستوى الاعتراف، والتفاعل الدولي مع هذه السلطة، وتعامل الدولة الأم والأطراف الثالثة معها، مع تركيز أقل على كيفية نظر الفاعلين السياسيين إلى المشاركة داخل حكومات سلطة الأمر الواقع. ويسلط غاريث ستانسفيلد Gareth Stansfield ونينا كاسبرسن Nina Caspersen الضوء على الدعم الذي تتلقاه سلطة الأمر الواقع من الدولة الراعية، وعلاقات القوة والشرعية الداخلية، وأنه إذا لم يكن لدى سلطة الأمر الواقع دعم دولة راعية أو دعم دولي، فإنها تحتاج إلى المناورة مع عدة دول لضمان بقائها، فإذا لم يكن ثمة دعم أو كان هناك تهديد بهزيمة عسكرية، فستبدأ بالنظر في التخلي عن هدف الاستقلال الكامل وفي حلول وسط تحافظ على وجودها "الرمزي" وتمنع اندماجها القسري بالدولة الأم. ويُستنتَج من ذلك أن الدعم الأقل يعني مزيدًا من الاستعداد لتنازلات من سلطة الأمر الواقع، وأن نسبة هذا الدعم تؤثر طردًا في موقفها.
الهيمنة على محافظات الدراسة وأثرها
أحدثت سلطات الأمر الواقع في محافظات الدراسة جماعات أو تنظيمات، تغييرات بنيوية وسكانية، ودخلت في تحالفات محلية وإقليمية وشبه دولية ساهمت في استمرار بعضها إلى حين، وبعضها لا يزال قائمًا. ويشهد الواقع أن الأبحاث التي تنظّر للصراع بين الدول هي أكثر من دراسات التنافس بين الفاعلين المسلحين داخل الدول، ومن الأخيرة دراسات فوتيني كريستيا Fotini Christia المعنونة: تشكيل التحالفات في الحروب الأهلية Alliance Formation in Civil Wars، وعبد القادر سنو المسمّاة: تنظيمات الحرب في أفغانستان وخارجها Organizations at War in Afghanistan and Beyond، ومقالة إيميلي غايد Emily Gade ومايكل غاباي Michael Gabbay ومحمد حافظ في مجلة أبحاث السلام Journal of Peace Research المعنونة: "قتل الإخوة في الحركات المتمردة: تحليل شبكة الاقتتال الداخلي بين المسلحين السوريين" Fratricide in Rebel Movements: A Network Analysis of Syrian Militant Infighting، وهي قلة تدل على أن النزاعات والصراعات بين الجهات الفاعلة المسلحة لا تزال غير مدروسة كما ينبغي.
التغييرات على الأرض
بعد طرد قوات النظام من معظم محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، وتشكُّل مجموعات إسلامية جهادية وإثنية، وقع التنافس بين مجموعات معارضة كثيرة. ولإلقاء الضوء على التغيير الذي مرت به هذه المناطق خلال التنافس المسلح بين هذه القوى، كشف هذا الكتاب ما خلفته الصراعات من زعزعة للاستقرار وفرار لملايين البشر إلى مناطق آمنة أو دول أخرى، وفرصة لإعادة النفَس إلى النظام الذي استغل معارك تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" مع الجيش الحر وجبهة "النصرة" وطردهما من مناطق سيطرتهما في الشمال، ومعارك قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مع الفصائل وانتزاعها الأراضي منها، لشنّ قواته هجمات ودخولها أجزاء من محافظات دير الزور والرقة وحلب وإدلب.
ويُثبت الكتاب الفشل الذي منيت به الدولة الأم ممثلةً بالنظام، وسلطات الأمر الواقع ممثلة بداعش وقسد والجيش الحر وهيئة تحرير الشام ... وغيرها، فكلها "دول" فاشلة، سواء تمثلت بمناطق النظام أو بمناطق محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، كمناطق الإدارة الكردية ودرع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام.
وباستيلاء الإسلاميين الجهاديين وتنظيمات إثنية أخرى على قسم كبير من المنطقَتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، شهدت هاتان المنطقتان على مدار عقد من الزمن تغييرات مجالية وسكانية كبيرة ومصيرية وتكاد تكون جذرية، كما أنها مهّدت الطريق للتدخل الأجنبي، خاصة مع ظهور داعش وإعلانه الرقة عاصمة دول الخلافة.
هدف الجزء الثاني من الكتاب
بالإضافة إلى توثيق أحداث محافظات الشمال ومجريات الصراع بين قوات النظام والفصائل المسيطرة على الأرض وكيفية تغيير موازين القوى بينها، عمد هذا الجزء من الكتاب إلى توثيق عمليات التهجير والنزوح، بما فيها من أنواع العنف؛ من القصف المنظم والعشوائي إلى الحصار ثم التجويع فالمذابح، وقوانين استملاك الأراضي والعقارات ومنع الأهالي من العودة إلى ديارهم.
ولهذا الجزء أهمية خاصة، بسبب تسليطه الضوء على جميع مجريات الحرب السورية في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، وتغير ميزان دعم القوى على المستويَين المحلي والإقليمي، وقد كان لاستخدام الفصائل والميليشيات الطائفية والعرقية استراتيجيات التهجير القسري والتطهير العرقي والطائفي والطرد المنظم بحق أفراد الجماعات العرقية والدينية ومجموعات الهوية الأخرى، ولجوئها إلى مختلف أنواع التهجير الاستراتيجي حيّزًا كبيرًا فيه. وبناء على هذا، توصّل الكتاب إلى نتيجة مؤدّاها أن التغييرات التي حدثت في المنطقتين مثّلت "قنبلة" ديموغرافية بشرية سياسية يهدد انفجارها بتشظيات في المنطقتين لا تُحمد عقباها.