صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مذكرات فاروق الشرع: الجزء الثاني، 2000-2015؛ وهو من تأليف وزير الخارجية السوري الأسبق ونائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع، خلال مرحلة نظام بشار الأسد، ويقع في 272 صفحة. جمع المؤلف بين دفّتيه خمسة عشر فصلًا، تناول فيها تجاربه خلال هذه المرحلة التي بدأت بتوليه منصب وزير الخارجية في عام 2000، وصولًا إلى اعتزاله العمل السياسي في عام 2013. ويقدّم في هذا الكتاب رؤية عميقة للأحداث السياسية التي مرت على سورية منذ اندلاع الثورة في 2011، ويسلط الضوء على مسار حياته المهنية وما عايشه من صراعات داخلية، وسياسية، وعلاقات دولية في ظل هذا التحوّل المزلزل. وكان المركز العربي قد أصدر الجزء الأول من المذكرات تحت عنوان الرواية المفقودة، وفيه تفاصيل المفاوضات السورية - الإسرائيلية في عهد الرئيس حافظ الأسد، التي ظلّت طيّ الكتمان حتى نُشِرَت بالتعاون مع المركز في عام 2015.
فاروق الشرع يكسر الصمت
يمثّل كتاب مذكرات فاروق الشرع بأحداثه، قراءة لتجربة المؤلِّف في السياسة السورية، ويستعرض الحقائق التي لم تُنشر من قبل، إلى جانب التحليلات والملاحظات التي قد تسلّط الضوء على بعض جوانب التوترات الدبلوماسية. ويروي الشرع الأحداث من موقعه المسؤول وموقعه الإنساني، ويكشف عن الانطباعات الشخصية التي كُتبت بحذر، مع التحفّظ على تفاصيل كثيرة كانت قد أُدرجت بناءً على توصياته بنشرها بعد وفاته، لكن سقوط النظام السوري في عام 2024 أتاح نشرها في حياة المؤلف ضمن هذه المذكرات.
يستهل الشرع المذكرات بتفاصيل المرحلة التي سبقت الثورة السورية، مشيرًا إلى ما كان يُطلق عليه "ربيع دمشق" في بداية حكم بشار الأسد في عام 2000، ثم الانتقال إلى المأساة التي نشأت بسبب احتجاجات "الربيع العربي". ففي رأيه، لم تكن الأزمة السورية مثل غيرها من الأزمات السابقة في المنطقة، بل هي أزمة مركّبة معقّدة، انخرطت فيها دول كبرى؛ ما جعلها عرضة لصراعات دولية على مستوى جيوسياسي. وتناول التغيرات التي أصابت المنطقة العربية، والتي كانت تراوح بين الأمل بالتغيير وحروب عنيفة وضحايا لا يُعدّون.
في ما يتعلق بالأزمة السورية، تحدث الشرع عن تصاعد العنف بعد عام 2011، مع لجوء النظام السوري إلى قواته العسكرية، التي تدخلت في مدن عدّة لقمع الاحتجاجات. ويبرز المؤلف كيف تأزمت الأوضاع، واعتبر أنه أصبح من غير الممكن الوصول إلى حل سياسي بسبب تدخلات خارجية وتحالفات دولية كانت ترى مصالحها في سورية. وقد أدّى الصراع الداخلي والضغط الدولي إلى تعقيد المفاوضات السلمية، حيث إن المحادثات حول مناطق خفض التصعيد في أستانة وسوتشي لم تثمر عن نتائج تُذكر، لأنها كانت تحركات شكلية.
دولة ممزقة وحلفاء لا يرحمون
يعرض المؤلف كيفية سيطرة القوى الأجنبية على المشهد السوري بعد التدخل الروسي في عام 2015، إذ تركزت القوات العسكرية الروسية والإيرانية في الأراضي السورية؛ ما أعطى تحكمًا أكبر للقوى الخارجية في مستقبل سورية. ويشير إلى التفاهمات الروسية - الإسرائيلية التي جعلت سورية ساحةً لصراعات أكبر كانت تندرج ضمن التفاهمات المصلحية بين هذه القوى، بعيدًا من الاهتمام بمصلحة الشعب السوري.
وفي ما يتعلق بمؤسسات الدولة السورية، يعترف الشرع بتدهور الاقتصاد وضعف المؤسسات الحكومية ما عدا المؤسسة الأمنية، التي حافظت على قوتها في ظل الأزمة. ويتطرق إلى دور كلٍّ من روسيا وإيران في استدامة النظام السوري، في الوقت الذي تراجع الدور العربي بشكل ملحوظ، خصوصًا في مسار الحلول السياسية.
ويكشف الشرع عن موقفه الشخصي من الأحداث، مؤكّدًا أنه لم يكن مؤيدًا قرارَ حرب النظام على الشعب السوري، وأنه كان يرى في ذلك تدميرًا للبلاد؛ ما يكشف تباينًا في المواقف بينه وبين النظام، الذي بقي في السلطة بفعل الدعم الخارجي وفي ظل آلام وانقسامات عميقة داخل سورية.
يأمل الشرع، في خاتمة الكتاب، في أن يكون ثمة واقع جديد لسورية، نظرًا إلى الدور الحيوي الذي أدّته على مر العصور من النواحي الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، وفي أن تتغير الأمور في المستقبل. لكنه يرى، في الوقت نفسه، أن الطريق سيكون طويلًا مع تراكم الدمار وتزايد التدخلات الدولية.
يقدم الكتاب رؤية عميقة وشخصية للأحداث السورية من موقع المسؤولية، ويكشف عن جوانب لم تُنشر من قبل حول السياسة الداخلية والصراعات التي دارت داخل النظام؛ ما يجعله مصدرًا مهمًّا لفهم تاريخ سورية الحديث والمصير الذي وصلت إليه. وتكمن أهمية هذا العمل في أنه يقدّم شهادة حية وشخصية من أحد المسؤولين الكبار في النظام السوري، ما يضفي صدقية وعمقًا على الأحداث التي كانت محطَّ جدل. كما يمثل إضافة مهمة إلى المكتبة العربية، حيث يمكن اعتباره مرجعًا لفهم الصراع السوري، والتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، ويُعد ضروريًّا لكل باحث أو مهتم بالسياسة الدولية والأزمات الإقليمية.