صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب نقد النقد: من النقد الأدبي إلى تحليل الخطاب، من تأليف محمد بوعزة.
يتناول الكتاب واقع النقد العربي بدراسة متون نقدية لأهم النقاد العرب المعاصرين، ويقترح تصورًا جديدًا لمفهوم "نقد النقد" يرتكز على نظرية الخطاب. ويُبرز، من خلال تتبّع تطور ممارسة هذا الحقل في الخطاب النقدي العربي، هيمنة مقاربتين منهجيتين عليه؛ الأولى، المقاربة الأيديولوجية التي سادت إلى حدود الثمانينيات من القرن العشرين، وتركزت فيها وظيفة هذا النقد على التشخيص السوسيولوجي للعوامل المادية والاجتماعية التي تشكّل مواقف النقاد العرب، وتحدد اختياراتهم المنهجية. ثم ينتقد هذه المقاربة، لأنها أدلجت هذه الوظيفة، واختزلت مهمته في التقويم السياسي لمواقف النقاد العرب، متجاهلةً البعد المعرفي للخطاب النقدي ذاته. أما المقاربة الثانية، فهي المقاربة الإبستيمولوجية التي ظهرت منذ التسعينيات، وحاولت تجاوز النزعة الأيديولوجية التي هيمنت في الفترة السابقة، بالدعوة إلى بناء نموذج علمي، تتركز فيه وظيفة نقد النقد على دراسة الجانب المعرفي والمنهجي في الخطاب النقدي، ووصف آلياته في إنتاج المعرفة. وعلى الرغم من أن المقاربة الإبستيمولوجية شكّلت نقلة نوعية في خطاب نقد النقد العربي، فإنها سقطت في مأزق النمذجة المثالية للخطاب النقدي؛ فقد فرضت منهجية واحدة في مقاربته، ادّعت أنها صالحة للتطبيق على جميع الخطابات والممارسات والكتابات النقدية بغضّ النظر عن اختلافاتها، وهذا يتعارض مع النسقية الدينامية التي تميّز هوية الخطاب النقدي.
نحو تصور جديد لنقد النقد
يقترح الكتاب تصوّرًا جديدًا لنقد النقد، يرتكز على نظرية الخطاب، ويشكّل فيه هذا النقد استراتيجيةً في القراءة النقدية، يتحدد موضوعها في تفكيك الطريقة التي يُبنى بها الخطاب النقدي. ويجري هذا التفكيك انطلاقًا من ثلاثة مستويات تحليلية ونقدية متضافرة؛ إبستيمولوجية، وهيرمينوطيقية، وتفكيكية. يتناول المستوى الإبستيمولوجي عناصر الرؤية المنهجية، من حيث كيفية تشكّلها نظريًّا وتجسّدها إجرائيًّا في قراءة النصوص. أما المستوى الهيرمينوطيقي، فيستقصي ما يشكّل رؤية للعالم في الخطاب، سواء أكانت صريحة أم ضمنية، وهي الرؤية التي تتحكم في تفسير الناقد للعمل المدروس وتأويلاته. في حين يُعنى المستوى التفكيكي باستنطاق نظام الحقيقة في الخطاب؛ أي "ما يعتبر صحيحًا داخل نسق من القواعد لخطاب بعينه"، ويُستَبعد بموجبه ما يعارض هذا النظام من موضوعات وقضايا وخطابات مغايرة.
في الحاجة إلى نقد النقد
يحاجّ المؤلف، في أطروحته النقدية، بأهمية تفعيل خطاب نقد النقد في قراءة منجزات النقد العربي وتقويمها، انطلاقًا من الوضع الإشكالي للنقد العربي المتمثل في مشكلة المرجعيات المستعارة؛ إذ يفتقر إلى نموذجه الخاص في دراسة الأدب العربي، ويستند في مقارباته المنهجية إلى المرجعيات النظرية الغربية، ما يجعله عرضة لخطر التبعية الذهنية للآخر. لذلك، يشدد المؤلف على أهمية نقد النقد بوصفه أداة قادرة على بناء شروط وعي نقدي متحرر من الهيمنة الثقافية الغربية، التي تفرض مصادراتها المركزية على رؤى النقاد العرب وتأويلاتهم للنص العربي.
ويؤكد المؤلف، انطلاقًا من تصور الخطاب أداةً للتحرر، أن النقد في الثقافات التابعة التي خضعت للاستعمار، ولا تزال واقعة تحت تأثير الهيمنة الثقافية الغربية، ينبغي أن يتموضع في موقع خطابي مضاد للافتراضات المعيارية الكونية التي تتأسس عليها أنساق المعرفة والتمثيل الغربية. وبهذا المعنى الخطابي، يمثل النقد في الثقافات التابعة شكلًا مقاومًا من أشكال التفاوض الثقافي، يناضل فيه الناقد من أجل امتلاك سلطة الخطاب والتمثيل؛ وهي السلطة التي احتكرتها المعرفة الغربية. وبناء عليه، يتأسس التنظير التابع على تحويل استراتيجي لوضع النظرية في الخطاب، من خلال نزع مركزيتها، وإخضاعها لنقد مزدوج؛ أي لنقد النقد. وبذلك، لا يغدو هذا النقد مجرد مقاربة نقدية تحليلية للنصوص النقدية، بل استراتيجية في المقاومة الثقافية للمركزية الغربية وسياساتها القائمة على الهيمنة.