يمثّل الشفوي محملً لمجالات كثيرة من حياة الناس اليوميّة وأنشطتهم. ويرتبط ذلك المحمل غالبًا بمصالحهم، وبحقوقهم بصورة خاصة، فكانت الحقول المعنية بالتاريخ الشفوي حينئذ متمّيزة بعضها من بعض، وحدودها معلّمة بالنسبة إلى نظيراتها القائمة على محمل الكتابة. ويلاحَظ أن الكتابة كانت منتشرة في الإيالة التونسية العثمانية، سواء في المركز أو لدى المجموعات المحلية والأقليات على اختلافها، ومع ذلك وجدت أغراضًا ومجالات عيش ارتبطت عن وعي أو عن غير وعي بالتاريخ الشفوي.
في هذه الدراسة المتعلقة بخطاب الأقليات الدينية الشفوي والعيش المشترك تتبّع لموضوع التاريخ المحلّ لجزيرة جربة، في الجنوب الشرقي للقطر التونسي، ولا سيما حالات مخصوصة كان التاريخ الشفوي محملها، وتتمثلّ في حالة رواية الأصل عند المجموعات المحلية التي يتكوّن منها أهل جربة (إباضية، بربر، غرباء، عرب، مالكية، يهود... الخ)، وحالة عقود ملْكية الأوقاف لدى مجموعات الإسلام الإباضي، وأخيرًا حالة ملْكية اليهود العقارية الجماعية. تسعى الدراسة الإجابة في هذا الشأن عن أسئلة عدة، متعلقة بالحقوق التي يهدف المحمل الشفوي ضمانها لمصلحة المجموعات المحلّية هنا وهناك؛ وبحقيقة العلاقات الاجتماعية التي تتوارى وراء الرواية الشفوية التي تخص هذا المجال المجتمعي أو ذاك؛ وبسؤال متى يتوقّف العمل بمحمل الشفوي ليتحول إلى محمل المكتوب في الحالة التي تفرضها الرابطة الاجتماعية، التي يقوم عليها العيش المشترك في جزيرة جربة خلال العصر الحديث؟ لم يكن المحمل الشفوي من دون أن يساهم في تنظيم أهل جربة ويؤسس لبناء هرمي أو يحدد علاقة اجتماعية دقيقة وواضحة، تمثّل شكلً من أشكال قواعد لعبة لمختلف الفاعلين الاجتماعيين، كما أنه لم يكن من دون أن يخفي الأسباب الموضوعية التي تقف وراءه ووجب نبشها.