انطلق هذا البحث من مفهوم وتساؤل (المثقَّف الهُوَوِي وتراجع الأداء)، واختار مقاربتهما من مدخلين متضافرين: مدخل تاريخي وظيفي، وآخَر تاريخي نقدي. وأقام طموحَه على إشكالية مركزية هي النظر في موجبات انتهاء زمن المثقَّف الهُوَوي وبروز زمن ال «ثينك تانكس (Think Tanks) ». وباشر الدرسَ من خلال استدراج المعطيات إلى منطق السيرورة التاريخية، مستحضرًا خضوع عالَم الإنسان المادي والرمزي لإكراهات وتحولاّت تتغير بمقتضاها سُنن الوجود السوسيولوجي والسياسي والقيمي. ولمّا كان المثقَّف فاعلًا داخل هذا العالَم، رأى البحث أنه ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من قوانين التغير في الوظيفة والأداء.
تنفيذًا لهذا كله، اتّخذ البحث بنية ثلاثية التركيب؛ فهو أحاط أولًا بسياق النشأة، وفضّل أن تكون اللحظة الدريفوسية المنطلَقَ لتجميع العناصر البنائية للمثقَّف الهُوَوي من خلال رصد المهمّات التي ندب نفسه للقيام بها. وسعى ثانيًا إلى تأمّل معقولية خطاب نهاية المثقَّف، فاستحضر مقدّماته وحججه وناقش مآلاته. وانتهى إلى تزكية هذا الخطاب في بُعده التوصيفي أساسًا، واختلف عنه في المسوّغات والأحكام والنتائج. وتقيدًا بمبدأ حتمية الحراك التاريخي، اعتبر البحث هذا في محوره الثالث أن نهاية المثقَّف الهُوَوي كانت في الأساس نهاية لكلّ الزمن الذي نشأ داخله؛ فالانهيارات التي أصابت «العالَم التقليدي » كان يتكوّن على أنقاضها زمن جديد يتموقع فيه ال «ثينك تانكس » موقعًا رياديًا، تمامًا كما كان المثقَّف يتموقع في زمنه الخاص به. لذلك، قدّر هذا البحث أن مسألة المثقَّف والخبير تتجاوز في العمق وجود هذين الفاعلين وأداءهما إلى سياق أوسع، وهو سياق توزيع الأدوار التاريخية بين الأمم المتحكّمة في صوغ مسارات العالَم. ومن هنا، تجلّت أحكام إدانة المثقَّف، فاقدةً كلّ معقولية تاريخية لانعدام مفاعيل زمن القيمة. وبدا سياق ال «ثينك تانكس » ضرورة تاريخية تستمدّ شرعيتها من دخول العالَم إلى أفق سيادي آخَر هو أفق المصلحة.