ضمّن سهيل الحبيّب كتابه الأزمة الأيديولوجية العربية وفاعليتها في مآزق مسارات الانتقال الديمقراطي ومآلاتها، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (336 صفحةً من القطع المتوسط، موثقًا ومفهرسًا)، مقاربته للتحولات العربية "في سياق بروز المآلات المأزومة التي تدرّجت إليها المسارات الانتقالية الجارية في بلدان الثورات العربية، وهو السياق الذي بدأ فيه منطق التيئيس والإحباط يأخذ بالتدريج مكان منطق التمجيد والإغراق في التفاؤل الذي طغى على الخطابات السياسية والثقافية العربية في قراءاتها الموجة الثورية العربية الراهنة". فمحصّلات المراحل الانتقالية التي أعقبت الثورات العربية أعادت صدقية النظريات الأكثر تشاؤمًا والأكثر عنصريةً في مقاربة الحالة العربية المعاصرة، ومنها نظرية الاستثناء العربي التي تفترض أنّ المجتمعات العربية غير قابلة للارتقاء إلى مستوى المجتمعات الوطنية والمواطنية التي يتعايش أبناؤها في ظل نظام ديمقراطي تعدّدي تُحترم فيه الحريات والحقوق، وتُتداول فيه السلطة السياسية سلميًا.
ألّف الحبيّب كتابه من مقدمة، ومدخل نظري منهجي: المسألة الأيديولوجية العربية المعاصرة والتحول الديمقراطي عربيًا، مُصدِّرًا إيّاه بقوله إنّ يقوم على افتراض أول مفاده أنّ المسألة الأيديولوجية حاسمة في مجريات المسارات الانتقالية التي هدفت إلى التحول الديمقراطي في بلدان الثورات العربية، وفي المآلات التي انتهت إليها. وعلى أساس افتراضه الأول يقوم افتراضٌ ثانٍ؛ فربما يشكّل المشروع النقدي للأيديولوجيا العربية المعاصرة الذي صاغه المفكّر المغربي عبد الله العروي قاعدة منوالٍ تفسيري تحليلي لشطر أساس من مجريات هذه المراحل الانتقالية العربية ومآلاتها. وتصدّى في هذا المدخل لعدة مسائل: الآلية الديمقراطية ومؤسساتها، وانتقال الحراك من الجماهير إلى النخب ومفهوم الأيديولوجيا بدلًا من مفهوم الثقافة، وفاعلية الأيديولوجيا العربية المعاصرة في المراحل الانتقالية العربية.
قسّم الحبيب كتابه ثلاثة أقسامٍ. يحمل القسم الأول عنوان الثورة والوفاقية والديمقراطية في الأيديولوجيا العربية المعاصرة - براديغم الصراع المجتمعي المادي، وفيه فصلان.
في الفصل الأول، مفهوم الثورة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة وبراديغم الصراع المجتمعي المادي، عالج المؤلف مفهوم الثورة في خطابات وبراديغمات مختلفة، من الماركسية اللينينية - ضمن سياق بروز مفهوم الثورة في الفكر الأيديولوجي العربي المعاصر - إلى الخطاب القومي العربي، فالخطاب اليساري الراديكالي العربي، وأخيرًا خطاب الإسلام السياسي. وبحسب رأيه، تُخفي التناقضات الظاهرة في مفهوم الثورة في الفكر الأيديولوجي العربي المعاصر تجانسًا في التمثّلات الاجتماعية التي يستبطنها هذا المفهوم عند من أسّس له من القوميين والماركسيين اللينينيين والإسلاميين العرب. فـ "هذه التمثّلات تلتقي كلّها في الاسترشاد ببراديغم الصراع المجتمعي الفئوي المادي الذي يجعل من الثورة، في النهاية، فرضًا لإرادة قسم من المجتمع على قسم آخر منه، بوسائل العنف وأدواته".
شرّح الحبيّب في الفصل الثاني، الوفاقية العربية: من إعادة إنتاج براديغم الصراع المجتمعي المادي إلى إعادة بناء مفهوم الديمقراطية، البنية الأيديولوجية للوفاقية العربية في معالمها المعلنة والمضمرة، انطلاقًا من النظر فيها من حيث هي جملة تمثّلات ومتخيّلات اجتماعية، قبل معالجتها من حيث هي خطاب ينتج مفاهيم متعيّنةً؛ كمفهوم الديمقراطية الوفاقية أو الديمقراطية العربية. فالوقوف عند التمثّلات والمتخيّلات الاجتماعية التي يستبطنها التفكير الوفاقي العربي المعاصر يشكّل مدخلًا لفهم طبيعة الخطاب الذي شكّله والمفاهيم التي بناها، ولا سيما مفهوم الديمقراطية؛ ومن ثمّ فهم طبيعة متخيّلات صيرورة الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورات العربية الراهنة.
ورَد القسم الثاني بعنوان من تمثّلات الثورات العربية الراهنة ومتخيّلاتها إلى متخيّلات العملية الانتقالية - هيمنة المتخيّل الصراعي وضمور المتخيّل الوفاقي، وفيه فصلان.
في الفصل الثالث، براديغم الصراع المجتمعي المادي وتمثّلات الثورات العربية الراهنة ومتخيّلاتها، تناول الحبيّب تجلّيات براديغم الصراع المجتمعي الفئوي المادي في تمثّل الحراكات الثورية العربية الراهنة وتخيّلها، من خلال تجلّيات عودة مفهوم الثورة الطبقية أولًا، ومن خلال تجلّيات عودة مفهوم الثورة الهوياتية ثانيًا، ثمّ بيّن أنّ هذه التمثّلات والمتخيّلات لا تستبطن الأنموذج المجتمعي الديمقراطي بوصفه أنموذجًا مرجعيًا لها؛ "لأنّها تنافي تمثّل الثورات العربية الراهنة وتخيّلها وتجافيها من حيث هي ثورة مواطنين". ويقول في هذا السياق: "صحيح أنّ تجلّيات براديغم الصراع المادي في مفهومي الثورة الطبقية والثورة الهوياتية لا تشكّل كل مكونات المشهد الأيديولوجي العربي الراهن في تمثّله للثورات العربية الراهنة، لكن هذه التجلّيات تشكّل، في تقديرنا، المكون الرئيس فيه، بحُكم أنها كانت مصدر إلهام أساس، بطريقة أو بأخرى، لتمثّلات ومتخيّلات القوى السياسية الأكثر فاعلية والأكثر تأثيرًا في المراحل الانتقالية التي عرفتها بلدان هذه الثورات".
بيّن الحبيّب في الفصل الرابع، حدود المتخيّل الوفاقي في المسارات الانتقالية العربية، أنّ تمثّلات الفكرة الوفاقية ومتخيّلاتها التي تجسّدت في خطابات أغلبية المثقفين والفاعلين السياسيين الرئيسيين في المشاهد الانتقالية العربية الجارية نهلت من الرصيد النظري الذي راكمه الوفاقيون العرب في العقدين اللذين سبقَا اندلاع الثورات العربية الراهنة؛ وذلك بالكيفية نفسها تقريبًا التي نهلت بها تمثّلات هذه الثورات ومتخيّلاتها من الرصيد النظري الذي راكمه الثوريون العرب في العقود التي سبقت، وأنّ النخب السياسية الفاعلة في بلدان الثورات العربية بقيت أسيرة قواعد هذا البراديغم الصراعي، وهي تنتقل من تمثّل الحدث الثوري إلى تخيّل المسار الانتقالي المستكمل له، و"أنّ الوفاقية العربية المستندة إلى براديغم الصراع المجتمعي المادي لم تستطع أن تستبطن، في عمقها، التمثّلات والمتخيّلات الوفاقية التي تلائم هدف المسارات الانتقالية العربية الهادفة إلى بلوغ التحول الديمقراطي".
جاء القسم الثالث، وهو القسم الأخير، بعنوان من متخيّلات الثورة والديمقراطية العربية إلى صراعات المراحل الانتقالية وتقسيم المجتمعات، وفيه ثلاثة فصول.
في الفصل الخامس، من متخيّلات الثورة الهوياتية والديمقراطية العربية إلى سياسة الهوية وحكم الجماعة الدينية، ذكَر الحبيّب أنّ أحد أهمّ العناصر الرئيسة المفسّرة للمجريات والمآلات الصراعية التي عرفتها المسارات الانتقالية العربية يكمن في أنّ التعددية السياسية التي مورست عبرها الآليات الديمقراطية في الحكم سارت نحو شكل تعددية الجماعات العضوية العصبوية. "وعلى هذا الأساس، نرى أنّ أحد مفاتيح فهم هذه المجريات والمآلات يتجسّد في تعقّب جذور هذه السيرورة التطييفية الصراعية وكيفية صيرورتها إلى ما آلات إليه عيانيًا في مشاهد المراحل الانتقالية لبلدان الثورات العربية". لذا، سعى الحبيّب إلى أن يبيّن أنّ أهمّ العوامل التي دفعت في اتجاه هذه السيرورة التطييفية الصراعية كامنٌ في الصيرورة السياسية العملية التي أفرزتها تمثّلات الثورة الهوياتية والديمقراطية الوفاقية العربية ومتخيّلاتهما عند الإسلاميين، وهي الصيرورة التي جسّدت سياسة الهوية التي ينتهجها حكم الجماعة الهوياتية التي هي أقرب إلى حقيقة الجماعة العضوية أو الطائفة منها إلى الحزب السياسي في مفهومه الحديث.
سعى الحبيّب في الفصل السادس، من متخيّلات الثورة الهوياتية والديمقراطية العربية إلى مجتمعات "اللادولة": الصراعات المجتمعية الطائفية والقبلية والدينية، إلى تشريح جزء آخر من السيرورات التي تناولها آنفًا، من جهة كونها تمثّل الوجه الاجتماعي من الصيرورة العملية لمتخيّلات الثورة العربية، متناولًا متخيّل نقض الدولة الحديثة وبناء مجتمع المواطنة الدينية من التأسيس إلى الاستعادة، ومنكبًّا على دراسة أنموذجي ليبيا واليمن: من المراهنة على البنى الهوياتية إلى الصراعات التقليدية، حيث وجد أنّ البنى التقليدية، مذهبية دينية أو قبلية مناطقية، غير قابلة لأنْ تتحول إلى أحزاب وتنظيمات وحركات تمارس العمل السياسي السلمي وفق مقتضيات النظام الديمقراطي، وغير قابلة أيضًا لأنْ تكون حواضن موضوعيةً لمثل هذه التنظيمات. كما درس أنموذجَي تونس ومصر: من المراهنة على الأسلمة إلى الصراعات الهوياتية المستحدثة، فوجد أنّ الإسلاميين راهنوا على حرية مدنية يحقق العمل الدعوي من خلالها متخيّل صيرورة الأسلمة المجتمعية، "غير أنّ تطوّرات الحوادث ستثبت للإسلاميين، أو لجماعة منهم على الأقل، أنّ ممارسة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست ممكنةً بمنطق الحريات والحقوق في النظام الديمقراطي، ولا سيما أنّ المنطق الحقوقي سيغدو عنصرًا أساسًا من عناصر التجييش ضد العمل الدعوي وحراك الأسلمة".
في الفصل السابع، وهو الفصل الأخير، منطق الثورة الثانية أو استمرارية الثورة: ثورات الأيديولوجيا العربية المعاصرة، قال المؤلف إنّ الثورات الأيديولوجية العربية المعاصرة ظهرت بوصفها ثورات على الديمقراطية وضدّها، لا ثورات من أجل التحول الديمقراطي. فالمراحل الانتقالية مثّلت فرصًا سانحةً يحاول الفاعلون السياسيون استغلالها لإنجاز ثوراتهم الأنموذجية أو الثورات الحقيقية كما يتخيّلونها، بعد ما تبيّن لهم، بحسب الحبيّب، أنّ محصّلات الثورات الأولى؛ أي ثورات الجماهير التي أسقطت رؤوس الأنظمة المستبدة الفاسدة، لا تطابق متخيّلاتهم الأيديولوجية، قائلًا: "مفارقة هذه الثورات الثانية التي عملت على تطبيق متخيّلات الثورة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة أنّ أصحابها أطلقوها في سياقات تتيح إمكان الممارسة الديمقراطية وتغيير السلطة السياسية الحاكمة بالطرائق الانتخابية السلمية، الأمر الذي ترجم ترجمةً حسّيةً وعيانيةً التناقض الجذري والبنيوي بين المتخيّلات الثورية التي تسكن أذهان النخب الفاعلة في المراحل الانتقالية العربية وهدف التحول الديمقراطي الذي ترفعه هذه النخب باعتباره أفقًا للثورات العربية".
أنهى الحبيّب كتابه بخاتمة عامة، عنونها منعطف الثورات العربية ومنعطف أفول الأيديولوجيا العربية المعاصرة: ثلاث علامات بارزة، تناول فيها الأيديولوجيا المشدوهة الجامدة، والاستثناء التونسي، والانتقال من الديمقراطية الوفاقية إلى بديل الوفاق على التحول الديمقراطي أو منطق المسألة العربية بوصفه أرضيةً لهذا البديل. وبحسبه، تقوم المآلات التي انتهت إليها المراحل الانتقالية شواهد على إخفاق مفهوم الديمقراطية العربية الوفاقية، وإخفاق منطق الأيديولوجيا العربية المعاصرة الذي أفرز هذا المفهوم. وحتى الاستثناء التونسي لا يمثّل تنسيبًا لهذا الإخفاق بقدر ما يمثّل تأكيدًا له. فالعوامل والمعطيات التي صنعت التوافق الديمقراطي في المسار الانتقالي التونسي هي من غير جنس مفترضات الديمقراطية الوفاقية العربية ومتخيّلاتها.