صدر العدد الثالث والعشرون من الدورية المحكّمة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، والتي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد اشتمل العدد على الدراسات التالية: "السخرية الروائية: محكي تنسيب الحقائق واتساع المفارقات" لرشيد طلال الذي حاول فيها مقاربة السخرية الروائية في رواية ذات، لمؤلفها صنع الله إبراهيم، والوقوف عند تحققاتها، وذلك من خلال ما تسخره الرواية من إمكانات خطابية وصيغ لفظية، سواء في شكل تعليقات السارد أو تدخلاته الميتاسردية. ولم يكن اهتمامه مركزًا، في الأساس، على نظام التعاقب أو التناوب بين مجمل الأشكال الصيغية، ما دامت صيغة الخطاب المسرود تستحوذ على سائر مناحي النص الحكائي. ولذلك، تعقّب الباحث انتظامات آثار السخرية وأشكال حضورها وفق ما يتيحه النص ذاته من توالد وتناسل في وضعياتها ومواقفها وصورها. أما حمادي أنوار فحملت دراسته عنوان "الدين والعقل أو نقد الدين في فلسفة ديفيد هيوم"، وقد بحث فيها إشكالية التاريخ الطبيعي للدين، محاولًا الإجابة عن سؤال: كيف نفكر في الدين من منظور فلسفي وعقلاني، بعيدًا عن التأريخ له من قلب الدين نفسه؟ معتمدًا على أحد أهم رواد الفلسفة الحديثة، وهو الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم الذي كان من أكبر أعداء الدين والميتافيزيقا، وأحد زعماء النزعة الشكية.
بحث أحمد الجرطي في دراسته التي عنْوَنَها "النص الأدبي في ضوء إبدالات النظرية الأدبية المعاصرة: إستراتيجيات التأويل، ورهانات الدراسات الثقافية"، أهم إبدالات تأويل النص الأدبي من الوضعية النقدية التي قاربت النصوص الأدبية؛ بوصفها حاملة لدلالة أحادية جاهزة هي وليدة تمثيل سياقاتها الخارجية، وبوصف مهمة المؤول تتحدد في اكتشافها، مرورًا بسلطة النصية مع البنيوية بسبب رهنها نجاعة الممارسة النقدية وإنتاجيتها بتوصيف شعرية النصوص، وتحليل مظاهر أدبيتها ووحدتها الفنية المتجانسة. أما هشام مبشور صاحب دراسة "روح الإصلاح الديني في فلسفة كيرككورد"، فعالج مسألة الدين التي عادت بقوة مؤخرًا لتسيطر على النقاشات العمومية، كقضية كون الدين شأنًا عامًا بعد أن كان شأنًا خاصًا، مستبعدًا ومحرومًا من الحديث والتعبير عن نفسه بداية من عصر الأنوار، لكنْ بات لزامًا اليوم دراسة السلوك التديني للمواطن، ومعرفة أثره في الفضاء العام، ورصد مساهمته في إنتاج سلوك المؤمن. فالإيمان لم يعد مسألة اعتقاد وكفى، بل أضحى سلوكًا وفعلًا اجتماعيَّيْن. بناء عليه، وجد الباحث أنه من القمين دراسة الإيمان من الداخل في جذوره ومنابعه النفسية، قبل أن يتحول إلى سلوك. واستحضر في مقاربته المفكر اللاهوتي سورين كيرككورد الذي اهتم بمقاربة الدين نفسيًا ووجوديًا، أي من خلال المتدين لا من جانب خطابه، كما هو الحال مع المقاربة الهرمونيطيقية؛ أو من مظاهره مع المقاربة الفينومينولوجية. جاءت دراسة إبراهيم مجيديلة والتي بعنوان: "بول ريكور قارئًا لشخصانية إيمانويل مونيي"، ليتطرق فيها الباحث إلى الشخصانية التي أصبحت موضوع قراءات مختلفة ومراجعات مستمرة، قام بها عديد الفلاسفة، وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي يعد من أوائل الذين عُنُوا بالتراث الشخصاني نقدًا وتأويلًا؛ من أجل الكشف عن طبيعته وأصوله ومقاصده. أما الباحث عبد الحليم مهور باشة، في دراسته الموسومة بـ "الحداثة الغربية وأنماط الوعي بها في الفكر العربي المعاصر"، فقد عمد إلى تبيين أنماط الوعي بالحداثة الغربية في الفكر العربي المعاصر، انطلاقًا من فرضية ضمنية مفادها أن هذا الوعي تقلب في أطوار عديدة، واختار؛ بغية امتحان هذه الفرضية البحثية، نصوصًا فكريةً لباحثيْن عربيَّيْن هما: عبد الله العروي، وطه عبد الرحمن، فتناول النقد الذي قدمه كلاهما إلى الوعي بالحداثة الغربية في الفكر العربي، وقارن بين الأدوات المعرفية والمنهجية التي وظفاها في صياغة الوعي بالحداثة الغربية، كما أوضح إسهامهما الفلسفي في التأسيس لحداثة عربية أو إسلامية.
كما اشتمل العدد على مراجعتين مهمتين؛ الأولى للباحثة سجى طرمان لكتاب فجر العرب: شبابه وعائده الديمغرافي لبسمة المومني. وتدور مقاربات الكتاب على طرح يؤكد أن الشباب قوة مؤثرة في المستقبل العربي؛ فالعالم العربي يتغير من الداخل بفضل شبابه الذين يدفعون نحو مجتمع أقدر على المنافسة والمساءلة العلمية، وأن ارتباط المنطقة العربية وشبابها المتنامي بالمجتمعات الأخرى، يفتح أمامها آفاقًا جديدة لنشر أعراف وقيم جديدة عابرة للحدود، في السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ ما يصب في مصلحة المنطقة العربية. والمراجعة الثانية لكتاب أرخبيلات ما بعد الحداثة: رهانات الذات الإنسانية من سطوة الانغلاق إلى إقرار الانعتاق لمحمد بكاي. وقد أعدّها الباحث نيروز ساتيك. والجديد الذي يقدمه المؤلف في هذا الكتاب هو مناقشة ابتكار الآخر والغيرية؛ فهو يعالج إشكالياتها السياسية وقضاياها الأخلاقية والجندرية، ويفحص أساليبها في الفكر والفن والكتابة؛ ذاك أن الآخر الغريب أضحى لازمة فكرية في عصر الاختلاف. هي نظرات ما بعد حداثية ثائرة على مركزيات الذات وأساطير الأنا، لتحقق نوعًا من المقاومة لهذه الثقافة الأحادية وتشتغل كعقل مضاد لهذه الهيمنة والمركزية.