صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تعارض المصالح في الدولة والمجتمع، ويضم أوراقًا بحثية قُدّمت في ندوة حملت العنوان نفسه، عقدتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد في بيروت، في يومي 15 و16 أيلول/سبتمر 2015. شارك في الندوة عدد من المسؤولين والناشطين المهتمين بالشأن العام، إضافة إلى باحثين وأكاديميين يمثلون الاتجاهات السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية المهتمة بقضايا التنمية والحوكمة ومكافحة الفساد في الأقطار العربية.
سعت المنظمة في ندوتها هذه إلى كشف تأثير تضارب المصالح في تفشي الفساد في المجتمع من خلال تبيان أثره في مظاهر ثلاثة رئيسة: أولها يتعلق بتضارب الولاء الوطني وما يتصل به من مصالح وأطراف خارج الوطن بما يهدد أمنه وأمن المواطن. وثانيها في تضارب مهمات المسؤول كرقيب وقيّم بين الخاص والعام بما يفقده الاستقلالية والنزاهة في أداء واجباته. وأخيرًا، البحث في إشكالية العلاقة بين الأصيل والوكيل وما يعتريها من تعارض في المصالح.
واجب وواقع
يتألف الكتاب (352 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة فصول. يضم الفصل الأول، تعارض المصالح في الوظيفة العامة في الدولة، أربعة أوراق. مستهل هذا الفصل كلمة لرئيس الجلسة الأولى بهيج طبارة، قال فيها إن تضارب المصالح ليس في ذاته جرمًا يعاقب عليه القانون، إلا إنه ما لم توضع له قواعد صارمة تحول دون حصوله، سواء في القطاع العام أم في القطاع الخاص، فإنه يشكِل، بالنسبة إلى المسؤول أو الموظف، إغراء دائمًا لاستغلال المهمات الموكلة إليه من أجل تحقيق منافع شخصية؛ لذلك فإن تحظير مثل هذه الأوضاع، والحؤول دون حصول تضارب في المصالح، يصبحان جزءًا لا يتجزأ من سياسة مكافحة الفساد.
في الورقة الرئيسية، تعارض المصالح في المسؤولية العامة: مقارنة بين الواجب والواقع، يرى زياد أحمد بهاء الدين أن سنّ القوانين لا يحدّ من ظاهرة تضارب المصالح، بل ما يحد منها هو الوعي والحماسة في المجتمع لرفضها وعدم اعتبارها سلوكًا اجتماعيًا مقبولًا، وأداء الإعلام دوره في ملاحقة الفساد وفضحه، وتفعيل دور البرلمان الرقابي، كما تعزيز دور منظمات المجتمع المدني، وتأمين الحق في الاحتجاج السلمي للمواطنين، وتطوير الأجهزة الرقابية.
فساد ومسؤولون
في الورقة الأولى، تعارض المصالح في ممارسة المسؤولين في السلطات القضائية، يدعو جورج جريج إلى إصلاح آلية تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وتعزيز استقلاله المالي وتحصينه سلطة مستقلة من خلال اعتماد حماية قانونية تقي القضاة من النقل الاستنسابي أو العزل التعسفي، خصوصًا في القضايا الأساسية المتصلة بالفساد، ورفع الغطاء السياسي والطائفي عن سلك القضاء، وإلغاء المحاكم الخاصة والاستثنائية ذات الصفة القضائية.
يعود إبراهيم كنعان في الورقة الثانية، حدود الفصل بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية في ممارسة النائب لوكالته التمثيلية، إلى مسألتين أساسيتين في مقاربة العمل البرلماني: مفهوم تعارض المصالح والأخلاقيات، ويورد نماذج عن تضارب المصالح في الواقع البرلماني اللبناني، مثل تمديد النائب ولايته النيابية، وسن قوانين تكرّس مصالح خاصة للنائب أو للمجموعة السياسية التي ينتمي إليها، وإبراء الذمة بقانون للنائب.
في الورقة الثالثة، السلطة التنفيذية: تعارض المصلحة العامة وتعدد ولاءات المسؤول الطائفية والحزبية والفئوية: تجربة الدولة وانعدام الإنجاز هما تضارب المصالح الحقيقي، يكتب الفضل شلق: "تضارب المصالح هو في وعينا أولًا، ينخفض مستوى التضارب والفساد عندما تصبح الدولة كيانًا مجردًا، حميمًا في أنفسنا؛ عندما يعتبر كل منا أن الدولة جزء منه. ما بني على باطل هو باطل حكمًا. الفساد هو أساسًا في غياب فكرة الدولة، أو في وعينا بها. يتضاعف الفساد عندنا، لبنانيين وعربًا، بسبب غياب هذا المشترك، الدولة التي هي المصلحة العامة العليا (المستحيلة في وضعنا الراهن)".
تجارب واستغلال
في الفصل الثاني، تعارض المصالح في الإجراءات التنفيذية للدولة، ستة أوراق. في الورقة الأولى، مخاطر تعارض المصالح على السيادة الوطنية في استغلال مصادر الطاقة، يرى وليد خدوري أن الصناعة البترولية هي مرتع للفساد في ظل غياب الشفافية والمحاسبة؛ مقدمًا أمثلة على تعارض المصالح لدى المسؤولين في القطاع النفطي: تعاطي المسؤولين الرسميين للأعمال التجارية كوكلاء لشركات نفطية بينما يشغلون مناصب رسمية، ودور الوسطاء أو العملاء في تسويق النفط، وظاهرة الرشاوى التي يقدمها مدراء الشركات لكبار موظفي الدولة للفوز بالعقود في القطاع النفطي.
في الورقة الثانية، تأثير المصالح المتعارضة في تكوين السياسية المالية والنقدية: التجربة المغربية، يعدد محمد حركات عوامل تساهم في تعميق ظاهرة تعارض المصالح في المغرب: الغموض المؤسساتي في السيطرة على تكوين السياسات العمومية، وضبابية التشريع، والجمع بين الوظيفة العمومية والأنشطة الحرة، وبقاء المسؤول في منصبه مدة طويلة، وغياب مدونات السلوك في مجال تضارب المصالح، وغياب ثقافة التقويم، ومقاومة تجريم الإثراء غير المشروع، والجمع بين رقابة التسيير والتدقيق.
في الورقة الثالثة، تسيير القطاعات الخدمية بين آليات السوق والتفضيلات السياسية: رؤية للعوامل والمحددات في ضوء مفهوم المصلحة العامة )مع إشارة خاصة إلى لبنان)، يرى عبد الحليم فضل الله أن هناك ثلاثة محددات أساسية تساهم في تحديد الطرف الأقدر على تجسيد المصلحة العامة في النشاط الاقتصادي: شكل النظام السياسي ومستوى التقدم الاقتصادي والميول الإيديولوجية للحكومات. ويستنتج أن الحكومة هي الطرف الأفضل في تعظيم المنافع العامة مقارنة بالقطاع الخاص في الدول النامية، خصوصًا تلك ذات الاقتصادات الريعية والإنتاجية المنخفضة وأنظمة الحكم التوافقية.
إنماء وتصرّف
في الورقة الرابعة، الإنماء المتوازن بين المصلحة العامة والولاء الفئوي: التجربة اللبنانية، يقول محمد فواز إن تأثير الولاء الفئوي يتجاوز الإنماء الاقتصادي وتنفيذ المشاريع، ليمتد إلى التعليم والصحة، وهي مجالات أصبحت في لبنان فئوية. ويرى أن البديل عن الفئوية والطائفية والمذهبية هو بناء الدولة القوية والعادلة التي تستند على الزعامات الوطنية ورجال الدولة الكبار الذين يعملون بكفاءة وتجرد لإنماء الوطن وتربية المواطن الصالح.
في الورقة الخامسة، التصرف في أملاك الدولة الثابتة واستملاك الأراضي الأميرية في دول الخليج العربي، يقول عبد النبي العكري إن مع بروز مفاعيل النفط، وأهمها التوسع العمراني المتسارع، برز مفهوم أن أراضي الإمارة أو المشيخة والمملكة هي بتصرف الحاكم يعطيها لمن يشاء، وبالطبع فإن الأقربين أولى بالمعروف، أي الحكام وعائلاتهم. من هنا برزت ظاهرة استحواذ الشيوخ، أو الأمراء، على الأراضي الشاسعة، خصوصًا تلك التي يقام عليها التوسع العمراني والعقاري وتكتسب قيمة كبيرة.
في الورقة السادسة، أملاك الدولة العامة والخاصة في مملكة البحرين (قراءة لتقرير لجنة التحقيق البرلمانية بشأن أملاك الدولة)، يستعرض عبد الجليل خليل إبراهيم أبرز توصيات لجنة التحقيق البرلمانية بشأن أملاك الدولة العامة والخاصة للحد من التجاوزات في إدارة أملاك الدولة: إرجاع الملكيات التي وقع عليها التعدي إلى حالتها الأصلية، وتقديم الحكومة التوضيحات اللازمة للمجلس النيابي حولها، وإصدار كشف مفصل بأملاك الدولة، وتعديل قيمة إيجار عقارات الدولة، واعتماد مبدأ المزايدات، وتنظيم سياسات استثمار أملاك الدولة، وإزالة التعديات على المواقع الأثرية.
مؤسسات ومهن حرة
يضم الفصل الثالث، تضارب المصالح في المؤسسات التجارية وقطاع الأعمال والمهن الحرة، ثلاثة أوراق. في الورقة الأولى، تعارض المصالح والمهمات لمراجعي ومدققي البيانات المالية، يقول طلال أبو غزالة إن من يطبقون معايير المحاسبة (مدققو أو مراجعو الحسابات) يواجهون تحديات تضارب المصالح الذي يظهر جليًا عندما تحاول إحدى شركات المحاسبة والتدقيق أن تصدر تقريرًا منافيًا للحقيقة أو يحابي جهة معينة، ما ينتج آثارًا كارثية على اقتصاد الدول ومواطنيها.
في الورقة الثانية، تعارض المصالح ومسؤولية أعضاء مجالس الإدارة في الشركات الخاصة والعامة، يؤكد داود خير الله ضرورة كشف كل مسؤول في أي شركة أي حالة تحتمل تعارض المصالح، وامتناع كل عضو في مجلس الإدارة أو اللجان الخاصة عن المشاركة في التداول أو التصويت بشأن كل مسألة قد يكون له فيها مصلحة تتعارض مع مصلحة الشركة، وضرورة توفر الشركة أو المؤسسة على إجراءات واضحة بشأن كيفية التعامل مع حالات تعارض المصالح.
في الورقة الثالثة، تعارض المصالح والتزام النزاهة في ممارسة المهن الحرة، يرى ممدوح حمزة أن المهن الحرة هي الحلقة الأضعف في عملية تضارب المصالح، على الرغم من كونها تمثل أساس أي عمل تنفيذي، لأنها بين رحى قوة المال (المالك ومندوبه) وسندان قوة العضلات (المقاول). برأيه، أقصر الطرق وأوضحها إلى تأكيد النزاهة وعدم تضارب المصالح هي إعطاء المهندس الاستشاري كامل حقوقه ومستحقاته ليقوم بعمله من دون الخضوع للإغراءات، وتفعيل دور النقابة في الرقابة والمتابعة ووضع قواعد وأسس تنظم العلاقات المختلفة بين أطراف المشروع تكون ملزمة للجميع، ومعاقبة المخالفين.
إعلام ومصالح
مستهل الفصل الرابع، الإعلام والمجتمع وتعارض المصالح، كلمة لرئيس الجلسة أحمد السيد النجار، أشار فيها إلى أن هناك صحافيين يشتغلون مستشارين لرجال أعمال ووزراء ومسؤولين، وهم لا يقدمون الاستشارات بل خدمات من خلال الوسيلة الإعلامية التي يشتغلون فيها، في تعارض واضح مع المصلحة العامة.
في هذا الفصل أربعة أوراق. في الورقة الأولى، الإعلام الموجه: توجيه لمعرفة الحقيقة أو إخضاع لمصلحة خاصة، ترى أمال قرامي أن الإعلام ما كان موجهًا لخدمة المواطنين ونقل الأخبار بحيادية، بل للتأثير في الرأي العام وتوجيهه وفق توجه إيديولوجي سياسي محدد وخدمة لأهداف معينة. وتورد ملامح عامة لعملية إصلاح القطاع الإعلامي، من توفر الإرادة السياسية لاحترام استقلالية الإعلام وإصرار الإعلاميين على النهوض بالقطاع والدفاع عن أخلاقيات المهنة ضد مظاهر الانزلاق والخرق والتفاعل مع الإعلام البديل، خصوصًا إعلام المواطن.
في الورقة الثانية، المسؤولية المهنية بين استقصاء الحقيقة وتسلط المصالح، تقول ريما كركي إن الثقافة غائبة عن كل شيء، أو باهتة أو طريقة عرضها بطيئة على جيل التقانة، وما زلنا عاجزين عن ضخها بأسلوب ممتع. فالثقافة تقضي على الخوف، والخوف عدو التغيير، وعدو التطور، وعدو الكرامة، وعدو المحاسبة، وعدو "قلب الطاولات"، وعدو التفكير البنّاء. وتختم بالقول إن الخوف حليف الفساد.
إعلان وثقافة
في الورقة الثالثة، الإعلان والإعلام بين المصلحة التجارية والمصلحة العامة، يرد نبيل دجاني أُفول قطاع الإعلان في لبنان إلى إخفاقه في احترام المصالح العامة والخاصة، وإلى عدم احترام حق المواطن في الحصول على معلومات صحيحة، وإلى توخي العاملين في هذا القطاع الربح المادي هدفًا أساس. بحسبه، نجاح العمل الإعلاني مرهون بأن يكون المواطن هو محور الاهتمام، "وفي مجتمع كلبنان تسيطر عليه العقلية التجارية والنموذج الطائفي - العشائري بامتياز أصبحت مصلحة السوق ومصلحة السياسيين الطائفيين - العشائريين بأهمية المصلحة العامة، وبالتالي ما عادت هناك قيمة للمواطن".
في الورقة الرابعة والأخيرة، عن تأسيس ثقافة شعبية مناهضة لتجاهل تناقض المصالح، يرى شربل نحاس أن حصيلة المسار الذي تراجعت فيه ثنائية مفهومي الدولة والمواطن لصالح ثنائية مفهومي الفرد والمجتمع توضح أن العلاقة المؤسسة لبنيان السلطة والمصالح والحقوق هي بين الفرد المالك والمجتمع بطوائفه وعائلاته الروحية. بحسبه، يمكن التحرك من خلال إعادة الاعتبار للعمل السياسي وهدم الحصون الدفاعية التي تشكلها هرميات المراتب لتعطيل ازدواجية المسرح حيث يعتلي المثقف المنبر بصفته خبيرًا أو مهنيًا، ويؤدي في الوقت نفسه أدوارًا وظيفية في الدولة المسيئة والمهينة.