صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب يمن الثورة والديمقراطية والحرب: التحولات السياسية وآمال بناء الدولة، ويشتمل هذا الكتاب على ثلاث عشرة دراسة لثلاثة عشر باحثًا من اليمن والأردن ومصر، متخصصين في مجالات الاقتصاد، والحوكمة، والإدارة العامة، وإدارة الأزمات، وإدارة المنظمات غير الحكومية، وعلم الاجتماع، وعلم الاجتماع السياسي، والعلوم السياسية، وفلسفة العلوم السياسية، وعلم النظم السياسية، والعلاقات الدولية، والدراسات العسكرية والأمنية والاستراتيجية، والأنثروبولوجيا، والتحول السياسي في اليمن، وأمن البحر الأحمر، والتنمية الدولية، والحركات الإسلامية. حرر مادة الكتاب بكيل أحمد الزنداني وعبده موسى البرماوي، وهو يقع في 560 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
مع اندلاع ثورات الربيع العربي وانتعاش الآمال بالانتقال الديمقراطي والإصلاحات، جاءت استحالة الربيع خريفًا قاسيًا متمثّلًا في الحروب الأهلية، والتدخلات الخارجية، والثورات المضادة، لتَئِدَ تلك الآمال، التي حاول اليمن تحقيقها بثورة سلمية، ولكنّ الصراع على مضمون التغيير وحدوده أدى إلى انقسام حادٍّ في النخب فَرَض حالةَ عدمِ توازنٍ سياسي وعسكري استدعت القوى الإقليميةَ وسيطًا للحل، فقامت "مبادرة مجلس التعاون الخليجي" التي وقّعتها القوى السياسية في الرياض، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، بتأسيس مسار سياسيّ جديد نَقَلَ السلطة من الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح إلى الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي، في 27 شباط/ فبراير 2012، على أن تكون الحكومة بالتساوي بين حزب المؤتمر وتكتل اللقاء المشترك، ثم عُقد مؤتمر حوار وطني شامل للخروج بدستور جديد صدرت في ختام مداولاته وثيقة أُوكلت مسؤوليةُ تنفيذها إلى النخب، غير أنّ "حركة أنصار الله" (جماعة الحوثي) رفضت مخرجات الحوار، ولجأت إلى السلاح، لتنزلق البلاد في أيلول/ سبتمبر 2014 إلى حرب أهلية، تبعها في آذار/ مارس 2015 تدخّل عسكري عربي تحت مسمى "عاصفة الحزم"، لدعم شرعية هادي المعترف به دوليًّا، فسيطرت "أنصار الله" على الشمال اليمني، واستمرت حالة عدم الاستقرار في المناطق الجنوبية والشرقية.
فهل ستستمر طويلًا حالة عدم اليقين التي تكتنف اليمن؟ وهل من سبيل إلى تجديد مسار سياسي يوقف الحرب ويستعيد الانتقال السلمي بين اليمنيين؟
تنبع أهمية هذا الكتاب الجماعي مِن جمْعِه بين تساؤلات الانتقال الديمقراطي وتساؤلات الدولة وبنائها؛ فاليمن في هذا الخصوص حالة استثنائية يتداخل فيها الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمحلي والإقليمي بقوة. ويحاول الكتاب الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، وتبيان العوامل التي أدت إلى وضع اللااستقرار في اليمن، والكشف عن أدوار أطرافه، والبحث في أحداث سنوات العقد 2011-2021 وتحليلها، ويركز على عوامل إعاقة التغيير في اليمن، ويضيف إلى مساهمة الدورَين الإقليمي والدولي في هذه الإعاقة قضايا داخلية؛ مثل الهوية والانتماء وتوزع الانتماءات في إطار المؤسسة العسكرية والعسكرة والانقسام الاجتماعي والبيروقراطية ومنظومة الإدارة العامة. ويهتمّ الكتاب أيضًا بالعمق التاريخي للتغيير السياسي في اليمن منذ تأسيس الجمهورية اليمنية الموحَّدة في عام 1990 حتى بداية انقلاب جماعة الحوثيين.
إشكالية القبيلة
مع وجاهة القول إن قبول القطاعات الشعبية مسار التغيير الديمقراطي في اليمن يبقى أمرًا مرهونًا بإزالة معوِّقات "القبلية"، فإنّ الكتاب يعارض هذا التعميم، مفرِّقًا بين مواضع تدعم القبيلة فيها التحولات ولا تخشى المضي في مسار الديمقراطية من جهة، ومواضع أخرى تكون القبيلة فيها "مِعْوَل" تحطيم لهذا المسار من جهة أخرى. ولفهم هذه الظاهرة يرسم الكتاب حدود هذا التكيّف من عدمه فيما يلي: أولًا، إنّ ضمَّ النخب القبلية إلى السلطة، كما هو الشأن في حالة مؤتمر الحوار الوطني، يؤثر في توجهات قبائلها بوضوح ويعيد تشكيل قناعاتها. ثانيًا، إنّ تستُّر الحزبية السلطوية بالقبيلة يدفعها إلى معاداة الديمقراطية، فالدولة في اليمن – كما يرى عزمي بشارة - ظلت منغمسةً في صناعة المخيال الطائفي وفرض الطائفية السياسية باسم القبيلة وبُناها الموروثة والمهيمنة على المجتمع؛ ما جعل الصراع قبائليًّا، فضلًا عن مذهبيته.
ويعارض الكتاب فكرةً مفادها أن الهويات الأولية تواجه الهويةَ الوطنيةَ بسبب القبلية، وينحو إلى أن العامل المساعد في هذا هو السلطة التي توظف التكوين القبلي اليمني في مشاريع للسيطرة، ويصل إلى نتيجة متمثلة في أن القبيلة في اليمن تصلح واسطةً سياسيةً للتغيير مثلما تصلح وسيلةً عنفية وعسكرية، وذلك على الرغم من تشديد الكتاب على أن اليمن ليس كله قبليًّا، وعلى وجوب الرهان على مكوناته الحداثية؛ مثل المثقفين، والمهنيين، وغيرهم، وهذه المكونات هي العنصر المهم في دفع المسار الديمقراطي.
ويبرز الكتاب، أيضًا، تعلُّقَ بطء التنمية السياسية في اليمن بالاقتصاد، وبقيم النخب، وضعف دولة القانون والمؤسسات، وخيبة أمل اليمنيين في إمكان إيجاد الديمقراطية حلولًا سلمية لمشكلاتهم، وإزاحة نموذج الوحدة الطوعية لمصلحة نموذج الوحدة بالقوة التي ثبّطتهم عن فكرة ضرورة تطوير الديمقراطية، ودفعتهم إلى الزجّ بالدين والمذهبيات لتغذية الانقسامات، وأبقت الأجهزة الحكومية في بيروقراطية قاتلة منذ الوحدة، والعجزَ متمكّنًا حتى بعد الثورة، وتحطمت كل الآمال التي عُقدت على مؤتمر الحوار الوطني في الإصلاح الإداري، بل إنّ الأمر على عكس ذلك؛ إذ لم يسلم المؤتمرُ نفسه من الانعكاسات السلبية، فقد تشرذم وجَمد عن تقديم أيّ برامج إصلاح وانحسرت ثقة اليمنيين به.
المجتمع المدني وسلبية العامل الخارجي
أما منظمات المجتمع المدني في اليمن، فقد سرت فيها أيضًا تيارات من المآزق البنيوية؛ من جرّاء الضعف المؤسسي، وغياب الحوكمة والرقابة، وتأثرها بتوجهات محافِظة، وارتباطها بهويات أولية واستقطابات جهوية ومذهبية، ثم جاءت الحرب لتقضي على كل مقدراتها المحدودة أصلًا.
وعلى الرغم من تبيان الكتاب أهمية العامل الخارجي المتمثل في دور الأمم المتحدة والمجتمع الأهلي، فقد أوضح أنّ أثر هذا العامل في الحالة اليمنية كان سلبيًّا، وذلك عندما طغت إرادة الخارج واستراتيجياته على تطلعات القوى المحلية وقوى الثورة نحو التغيير، ورسمت مسارًا ألحق الدولة الجديدة بإرادة أقوى منها ولا تعير الديمقراطية اهتمامًا، وفككت تماسك النسيج الوطني، حتى انتهت إلى الصورة الأسوأ للتدخل، وهو العسكري، وتكريس حروب الوكالات في اليمن.
الجنوب: مكسب يضيع
يُظهر الكتاب كيفية تطور المطالب المشروعة - كما حدث في قضية جنوب اليمن - إلى تهديد لوحدة الدولة، اتّخذ من التمييز الاجتماعي وقودًا لمطالب مناطقية بالتوزيع العادل، انقلبت خيارات انفصالية تمثلت في صيغة فدرالية تضمن استفادة الجنوب العادلة من الموارد. وبعد سلمية قوى الجنوب خلال المراحل الأولى للثورة، اعتمدت الفعل العسكري الهادف إلى إنهاء الوحدة حين أسست مجلسًا انتقاليًّا يعبّر عن سلطة الجنوب.
تأثير الاقتصاد
يبين الكتاب التأثير التفاعلي بين الاقتصاد والتغيير السياسي في اليمن، وكيف أنّ الأزمة الاقتصادية الخانقة عجّلت، خلال حرب 1994، بتبنّي برامج صندوق النقد الدولي، على الرغم مما فرضته من إدارة سلطوية للاقتصاد قوامها التوزيع الريعي الزبائني. ومع ذلك، أدى الصراع إلى إفشال الإصلاحات المرجوّة من تلك البرامج، ولم يصل اليمن إلى أي تنمية حقيقية، أو أي عدالة اجتماعية؛ ما أدى إلى اندلاع ثورة الشباب، وتكريس سلطتين في اليمن لإدارة الاقتصاد إثر حرب 2014.
يشكّل الكتاب إضافة مهمة إلى المكتبة العربية، والأمل قائم في أن يسد ثغرة في الأدبيات عن اليمن، وأن يشكّل مقدمةً لعمل بحثي وأكاديمي عربي أكبر، والأمل كذلك معقود بمساهمة رؤاه وزوايا نظره في الدفع ببحوث جديدة عن المجتمع اليمني تتسم بالأصالة والجدة وتفسر مآلات ثورته السلمية، وأبعاد أزماته الديمقراطية، وكل ذلك للوصول إلى غاية ذات أهمية قصوى؛ هي إخراج اليمن من عثرته.