صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب إستوغرافيات تركية: في كتابة الأتراك لتاريخ الدولة العثمانية 1860–1973، تأليف عبد الرحيم بنحادة، قدّمه عبد الرحيم أبو حسين. يتألف الكتاب من 479 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يطرح الكتاب تصوّرًا متكاملًا عن الهوية التركية وتحوّلاتها، وكيفية استعمال التاريخ العثماني ضمن أدوات أخرى في خدمة هذه التحولات، وهو خلاصة قراءة دقيقة للتيارات والكتابات التأريخية التي طبعت الحقب التاريخية المختلفة. ويعالج كيفيّة كتابة الأتراك تاريخ الدولة العثمانيّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى بداية سبعينيات القرن العشرين؛ حيث يتناول الكتابة التاريخية في زمن التنظيمات (1860-1908)، وكذلك تحوّلاتها في المرحلة الدستورية الثانية (1908-1924)، وفي السنوات الأولى من الحقبة الجمهورية (1924-1938). إضافة إلى ذلك، يرصد الكتاب عودة الدراسات العثمانية إلى واجهة البحث التاريخي في الفترة الممتدة بين عامي 1938 و1973، بعد رحيل مصطفى كمال أتاتورك، حيث يرى المؤلف أنه لا يمكن تناول هذا النوع من الكتابة "بمعزل عن التطورات السياسية التي عرفتها تركيا عقب رحيل كمال، لا سيما تلك المتعلقة بتبني الدولة للتعددية السياسية"، التي أفسحت المجال لانتقاد الأطروحات الكمالية.
التاريخ زمن التحديث والتنظيمات (1908-1798)
يُعتبر القرن التاسع عشر في تاريخ الدولة العثمانية منعطفًا تاريخيًا مهمًا تميز بكثافة الأحداث بشكل جعل الباحثين في الدراسات العثمانية يعتبرونه القرن الأطول الممتد .(En Uzun Yüzyıl)ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، زمن السلطان سليم الثالث (1789–1807)، شرعت الدولة العثمانية في سنّ سلسلة من الإصلاحات مهّدت لما عرفته الدولة العثمانية من تحولات كبرى خلال القرن التاسع عشر. وقد كانت المشاريع الإصلاحية التي أطلقها سليم الثالث متفاعلة مع التحولات العالمية الكبرى، ومتناغمة مع الأحداث التي عرفها العالم المتوسطي، وأهمها على وجه الخصوص الثورة الفرنسية التي تركت بصماتها على تاريخ العلاقات الفرنسية العثمانية من جهة، وعلى التاريخ الثقافي للدولة العثمانية من جهة أخرى، والحملة الفرنسية على مصر عام 1798، التي كانت لها تأثيرات واضحة على مسار التحديث في الدولة العثمانية وعلاقتها الحضارية بالغرب الأوروبي.
وقد تأسست هذه الإصلاحات على ما كتبه المثقفون ووجهاء الدولة العثمانيون من لوائح استجابة لنداء السلطان العثماني سليم الثالث. كما جاءت هذه الإصلاحات متناغمة مع التقارير التي كتبها سفراء الدولة العليّة إلى أوروبا. وأطلقت دينامية جديدة تمثلت في الأساس في دور الانفتاح على الغرب في تنشئة العديد من المثقفين، وتعلّمهم اللغات الأجنبية، وتعرّفهم إلى الأفكار التنويرية السائدة في أوروبا، كما أدت دورًا مهمًا في تأهيلهم ليكونوا جسورًا ونوافذَ مفتوحةً على أوروبا بعد عودتهم إلى البلاد العثمانية.
والحاصل أن كل هذه الإصلاحات انتهت إلى الفشل لأسباب مختلفة، منها ما يرتبط بضغوط اجتماعية تُرجمت على مستوى مقاومة الأعيان، وغضب الإنكشارية، وظهور النزعة الاستقلالية في الجبل الأسود وصربيا، إضافة إلى الاضطرابات التي عرفتها البلاد العربية، والمتمثلة في ثورات أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الحجاز، ومحمد علي في مصر. ولعل أهم ما عصف بالمبادرات الإصلاحية لسليم الثالث، الاعتداء الذي تعرضت له الدولة العثمانية، والمتمثل في الحملة الفرنسية على مصر.
تحولات الكتابة التاريخية زمن المرحلة الدستورية الثانية (1924-1908)
شهدت المرحلة الممتدة بين عامَي 1908 و1924 كثافة في الأحداث، لا تقل عن نظيرتها في القرن التاسع عشر، وكانت امتدادًا لها، وهو ما يفسر وصف القرن التاسع عشر بالطويل الممتد. بدأت هذه المرحلة من تاريخ الدولة العثمانية في 24 تموز/ يوليو 1908، عندما قرر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وتحت ضغط سياسي غير مسبوق، إعادة العمل بالدستور الذي عُلّق لمدة تزيد على ثلاثين عامًا. حدث هذا في الوقت الذي كانت فيه حركة القوميات قد قطعت أشواطًا كبيرة في إرساء دعائم دول هنا وهناك، واضعة حدًّا لوهمٍ تَكَوّن عند السلطان عبد الحميد وحاشيته؛ أن الإسلام قادر على محو الفوارق الوطنية.
في المجال الشاسع للدولة العثمانية، كان هناك وعي كامن بالهوية التركية التي اعتمدت في المقام الأول على اللغة التركية. وتعزز الإحساس بالهوية التركية في نهاية القرن التاسع عشر، عندما بدأت مجموعة صغيرة من الدعاة والعلماء العثمانيين، تحت تأثير التركولوجيا الأوروبية، في الميل نحو فرض لغة الأتراك وتاريخهم.
وعلى الرغم من تنامي هذه الدعوات، فإنّ الأفكار الوطنية التركية ظلت منحصرة في دائرة ضيقة، ولم تبدأ في التبلور والتوسع بشكل جلي إلا عشية الحرب العالمية الأولى. وقد سجل الملاحظون أن القومية التركية كانت منظمة بجمعياتها، وصحفها، وأدبياتها؛ ما يؤطر تيارًا فكريًا حقيقيًا بات يُعرف بـ türkçülük، الذي سعى إلى فرض نفسه باعتباره نظامًا سياسيًا في مواجهة فكرة المجتمع الإسلامي (الأمة) والأمة العثمانية (ملت عثمانلي)، بل أصبح هذا التيار يفرض نفسه بوصفه أيديولوجيا في مواجهة "الإسلاموية" و"الغربنة".
فتحت السياسة التي انتهجتها حكومة الاتحاد والترقي الباب أمام فوضى سياسية، كان من بين معالمها الاغتيالات في صفوف رجال الدولة، وكأن القمع الذي مارسه الحكام تولّد عنه عنف مضاد. وخلال العقد الثاني من القرن العشرين، دخلت الدولة العثمانية في حربين محلّيّتين وأخرى كونية. أما الحربان المحلّيّتان، فهما حرب طرابلس الغرب عام 1911، التي أعلنت نهاية الوجود العثماني في أفريقيا، والثانية حرب البلقان الأولى عام 1913، التي مهدت لسقوط الإمبراطورية. أما الحرب الكونية فهي الحرب العالمية الأولى التي أدخلتها في دوامة حسم النهاية.
اتخذت الدولة العثمانية قرار دخول الحرب انفراديًا، ولم يُعرف هذا القرار إلا بعد أن أصبح واقعًا. ويرى العديد من الباحثين أن تركيا لم تكن أصلًا مضطرة لدخول هذه الحرب، ولا سيما أن بريطانيا وفرنسا كانتا تفضّلان حيادها. اعتقد الأتراك أن دخول الحرب العالمية الأولى والانتصار فيها سيمكّنانهم من الانتقام من روسيا، واحتلال آسيا الوسطى، وربط الاتصال مع أتراك الأرغنكون، المهد الأسطوري للأمة التركية. أما الاتحاديون أنفسهم فقرروا وفق ما ينظرون إلى أنفسهم في سياق قناعتهم بجبروت ألمانيا التخلص كليًا من وضعية الدولة العثمانية بوصفها دولة "شبه مستعمرة"، وإعادة بناء السلطة المركزية المؤسسية الحديثة فيها.
والمحصلة أن الدولة العثمانية خرجت منهكة من الحرب العالمية الأولى، وشرع المنتصرون في الحرب في توزيع ممتلكاتها، وجرت اقتطاعات ترابية، فقد تمكنت بريطانيا من الاستيلاء على الموصل، وتحكمت كل من فرنسا وإيطاليا بشرق المتوسط، ومنها مناطق في صميم التراب التركي؛ أي الأناضول. وجاء الدور على العاصمة إسطنبول لتخضع لسيطرة القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية ابتداء من 16 آذار/ مارس 1919. ذلك كله أعطى الانطلاقة لمرحلة جديدة في تاريخ تركيا عُرفت بمرحلة حرب الاستقلال 1919-1922، التي مهدت للمرحلة التالية من التاريخ التركي.
على المستوى الثقافي، دخلت تركيا عهدًا جديدًا تسارعت فيه وتيرة التغريب، فقد أحدث إعلان الدستور عام 1908 تدفقًا كبيرًا للأفكار التي كبحتها رقابة السلطات الحميدية بعد تعليق العمل بدستور 1876. وفسح المجال للتعبير عن هذه الأفكار من خلال الصحافة التركية التي أصبحت واسعة الانتشار وكثيرة القراءة في أوساط الشباب المتعلم. وأصبح المثقفون الأتراك؛ نتيجة للوضعية السياسية الجديدة والطارئة للخلفية الثقافية والفكرية، أكثر اهتمامًا ببعض القضايا المتعلقة بالهوية. وبدا السؤال الذي طُرِح في السابق عن الوسائل التي ينبغي اللجوء إليها لإنقاذ الدولة مُتجاوَزًا، وبدأ التفكير في بدائل ممكنة.
تيارات كتابة التاريخ العثماني
في المرحلة الكمالية، عرفت كتابة التاريخ العثماني انحسارًا. وفي مرحلة ما بعد أتاتورك، ونتيجة للتطورات التي سبق رصدها، والدور الذي أدّاه محمد فؤاد كوبرولي في تكوين جيل جديد يشتغل وفق آليات جديدة للبحث في التاريخ، بشكل يبعده عن التوجهات الأيديولوجية، سواء تعلق الأمر بالتوجه الرومانسي، أو الاجتثاثي في حق الدولة العثمانية؛ وقع تحوّل كبير في الكتابة التاريخية.
تتلمذ على يد "المعلم" كوبرولي عددٌ من الباحثين الذين ساروا على النهج نفسه، وعملوا على كتابة التاريخ وفق تصوّره. ويمكن أن نميز في هؤلاء المؤرخين بين صنفَين: الصنف الأول، سار على نهج كتابة تاريخ وضعاني، هاجسه الأساس الاستناد إلى نصوص الوثائق وسرد الوقائع، ويمثل هذا الصنفَ مؤرخون من أمثال إسماعيل حقي، وأوزون جارشلي، وأنور ضياء قرال، وأحمد رفيق. أما الصنف الثاني، فاستفاد من التجربة الكوبرولية، واستطاع أن يطورها بعد متابعة دراسته في الخارج، خاصة في أوروبا، واحتكَّ بالمدارس التاريخية الجديدة، ويمثل هذا الاتجاه في هذه الفترة مؤرخون من أمثال عمر لطفي بركان، وخليل إنالجيك.
بين هذين الاتجاهين اختلافات وقواسم مشتركة، تجلّت الأخيرة في مسألتين اثنتين؛ تتعلق الأولى بالاهتمام بنشر الوثائق وجعله محورًا أساسيًا في البحث التاريخي، وتتمثل الثانية في الرغبة الجامحة في كتابة تواريخ عامة للدولة العثمانية.
ويعتبر نشرُ الوثائق أهم قاسم مشترك بين الاتجاهين. ولا بدّ في هذا الباب من تأكيد أنّ نشر الوثائق والنصوص لم يكن بالظاهرة الجديدة في الدراسات التاريخية، وقد سبقت الإشارة في فصل سابق إلى تكريس هذا التوجه منذ إنشاء الجمعية التاريخية العثمانية، التي جعلت من بين وظائفها العمل على نشر النصوص المتعلقة بالتاريخ العثماني. بيد أن الجديد الذي تميز به نشر الوثائق والنصوص هو نشرها مصحوبة بدراسات نقدية، تتجاوز الوصف إلى التحليل والنقد.
أما القاسم المشترك الآخر بين هذين الاتجاهين، فهو كتابة تاريخ عام للدولة العثمانية يتجاوز ما سبق إنجازه في المرحلة السابقة. وفي هذا الإطار، انكبَّ أوزون جارشلي على كتابة تاريخ مفصّل للدولة العثمانية، وعكف خليل إنالجيك على إنجاز مصنف آخر خصّصه للعصور الكلاسيكية.
أما الاختلافات، فتتجلى أساسًا في اهتمام الفريق الأول بالتاريخ السياسي والمؤسساتي للدولة العثمانية، والتركيز على العلاقات الدولية، ووضع التاريخ العثماني ضمن السياق الأوروبي. أما الفريق الثاني، فيركز، في الأساس، على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. وفي سياق الاختلافات، دائمًا، طرحت مسألة الاختيارات الزمنية، فبينما ركز الاتجاه الأول على الفترات المتأخرة من الدولة العثمانية، اهتم الاتجاه الآخر بتاريخ الدولة العثمانية من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر.