صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جديد للدكتور عزمي بشارة بعنوان في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟ والكتاب دراسة وافية ومعمّقة عن السلفية. وتلحظ مقدمة الكتاب أن السلفية قد لحقها مقدار كبير من التعريفات والشروح والاستعمالات المتباينة، فما برح الدارسون والباحثون يتداولون هذا المصطلح إما بالتبسيط الذي يُخلُّ بالمعنى، أو بالنقول المتواترة التي لا تضيف أيّ جديد على ما قاله الأسلاف. غير أن هذا الكتاب، خلافًا لذلك، ينأى تمامًا عن إعادة تدوير كتابات السلف، كما درجت العادة عند الكُتّاب التقليديين، بل يقتفي أثر العلم والبحث التاريخي التحليلي والتفكير النقدي، فلا يدرس السلفية بوصفها مفهومًا مجردًا ذا معانٍ اختزالية، بل بوصفها مصطلحًا له تاريخ، وله منشأ تاريخي، وخضع في سياقه التاريخي لتعديلات مهمة في معناه ودلالاته معًا، إذ إن مفهوم السلفية لم يبقَ واحدًا، بل صار متعددًا، وصارت لدينا سلفيات لا سلفية واحدة، كالسلفية الإصلاحية والسلفية الدعوية والسلفية العلمية والسلفية الجهادية ... إلخ.
من السلفية إلى السلفيات
يحفر عزمي بشارة أثلامًا في التاريخ الإسلامي، في محاولة لتأسيس مدخل علمي نقدي تحليلي يُمكِننا من خلاله فهم السلفيات في تطورها التاريخي والدلالي بما في ذلك العلاقة بين السلفية والوهابية، بوصف الوهابية إحدى السلفيات المحدثة وليست السلفية، وإشكالية العلاقة بين سلفية "أهل الأثر" القدامى وسلفية ابن تيمية، وصولًا إلى السلفية (الوهابية) المحدثة، ومحاولة تجذير نفسها في الماضي "السلفي"، مماهيةً بين الحنبلية والسلفية، وصولًا إلى تحليل السلفية الإصلاحية الحديثة وإشكالية علاقتها بالحداثة ومسائل استيعاب التقدم العلمي والحضاري، والجمع بين الدعوة الوطنية والدعوات التحديثية العصرية مثل سلفيات علال الفاسي ومحمد عبده ورشيد رضا الإصلاحية.
يتألف الكتاب (255 صفحة بالقطع الصغير، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة فصول متكاملة. يبحث الفصل الأول، "عن السلفية"، في معنى السلفية الذي يكاد ينحصر في ثلاث: العودة إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع، وإنكار المحدثات. ثم ينبري الكتاب لمناقشة بعض نظرات الاستشراق إلى هذه المسألة، ومساءلة مفهوم آخر مرتبط بالسلفية هو مفهوم الأصولية كما يستخدم في أدبيات دراسات الشرق الأوسط المعاصرة، مبيّنًا التعارض بينه وبين المفهوم الكلاسيكي الإسلامي للأصولية، وانتشاره كأنه "كليشيه" مفهومية قارة من دون تمحيص وتبصّر نقدي، بهدف فهم الدلالات التاريخية لمفهوم السلفية خارج تلك "الكليشيهات" السائدة والمهيمنة على آلية إنتاج الأفكار.
يتصدى الفصل الثاني، "عن التكفير"، لبحث مصطلح "التكفير"، ويجول في شعاب التاريخ الفكري للجماعات الإسلامية المبكرة كالخوارج والمرجئة، ثم موقع التكفير في منظومة ابن تيمية وفتاواه في الإسماعيلية النزارية والإثني عشرية، وتمييزاته بين تكفير المطلق وتكفير المعيّن ... إلخ، صعودًا نحو الحركات الجهادية الإسلامية التي اعتنقت التكفير، وظهرت في مصر في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته.
الحركات السلفية في مواجهة العصر
في الفصل الثالث، "السلفية والحركات الإسلامية"، يناقش المؤلف كيف تحولت الوهابية من دعوة إلى مؤسسة مع تبنّي ابن سعود وأبنائه من بعده تلك الدعوة وقولبتها في مؤسسة دُعيت "هيئة كبار العلماء". على هذا الغرار، ظهر كثير من المؤسسات التي تحولت لاحقًا إلى تيارات سياسية، كان بعضها متصادمًا مع الصوفية المدينية الشعبية التي تمثّل التدين الشعبي مقابل التدين الفقهي المؤسسي. في هذا الفصل بحث وافٍ عن "الإصلاح" الوهابي وعن ظهوره في بوادي نجد، وعن الحركات "الإصلاحية" الأخرى كجماعة الإخوان المسلمين التي أنشأت بنيتها التنظيمية على منوال الأحزاب اللينينية صاحبة مبدأ المركزية الديمقراطية الذي بات على يدَي حسن البنا مركزية شوروية مُعلِمة لا مُلزمة. وتوصل بشارة إلى خلاصة تقول إن الحركات السلفية إنما هي حركات حديثة نشأت في العالم الحديث بآليات التنظيم الحديثة ونتيجة لضغوط العالم الحديث، وإن من غير الممكن أن نفهم نصوص سيد قطب مثلًا من دون فهم اغتراب المثقف الشرقي عن الحضارة الغربية وفي الدولة الحديثة وفي مواجهة الأيديولوجيات القومية والطبقية والعلمانية والتحديثية الجذرية. ويتشعب المؤلف في النظر إلى الدوافع العميقة لظهور التكفير وإلى كوابحه في الوقت نفسه، ويمعن في عرض الأفكار التي تطلق باب التكفير على مصراعيه مثل مفهوم "الحاكمية" لدى أبي الأعلى المودودي، ولدى سيد قطب في كتابه معالم في الطريق، فضلًا عن أفكار مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول، حسن البنا، وما قابلها من أفكار تحديثية مثل أفكار طه حسين وأفكار الليبراليين المصريين عمومًا.
الوهابية: الطهرانية فالعنف السياسي
خاتمة الكتاب هو الفصل الرابع، "الوهابية في هذا السياق". والمؤلف يصرّ على أن حركة محمد بن عبد الوهاب بدت أشبه بتأسيس دين جديد عبر تخيّل المطابقة مع الإسلام في ظهوره الأول من حيث المنهج ونشر الدعوة، ومن خلال مقارنة الجاهلية التي سبقت دعوة النبي محمد بالأوضاع في نجد في عصر محمد بن عبد الوهاب. وفي هذا المجال، كتب محمد بن عبد الوهاب كتابًا عنوانه مسائل الجاهلية، وتبعه محمد قطب في كتابه جاهلية القرن العشرين، وتبحّر سيد قطب في تأصيل عبارة الجاهلية في كتابيه في ظلال القرآن ومعالم في الطريق.
لاحظ المؤلف أن الوهابية ما كان في إمكانها أن تنتصر في الجزيرة العربية لولا سياقها النجدي، وتحالفها القبَلي مع آل سعود، وهذا يعني انفصال زعامة الدعوة (محمد بن عبد الوهاب) عن زعامة البلاد والعباد (محمد بن سعود)، خلافًا لما كان الأمر عليه في مرحلة الإسلام الأولى حين كان النبي هو صاحب الدعوة وهو الإمام في الوقت ذاته. كما لاحظ بشارة أن الوهابية تصادمت طويلًا وعلى نحو جذري مع التدين الشعبي، وحاولت فرض أنماط جديدة من التدين على الناس، الأمر الذي أدى إلى تبرّم العامة منهم، والنظر إليهم على أنهم فاتحون بالقوة والتغلب.
يوضح المؤلف أنه لا يتفق مع مماثلة الوهابية والبروتستانتية حتى مع وجود بعض التشابه بين مارتن لوثر ومحمد بن عبد الوهاب، خصوصًا في سرعة التكفير والقسوة في فرض مظاهر الدين على العامة، ثم التمرد على الكنيسة الرسمية التي ستوازيها مشيخة دار الإسلام العثمانية. يرى المؤلف أن الوهابية هي، في الأصل، تيار صغير ذو توجه طهراني تقشفي، ولم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى قبائل التخوم في مواسم غزوات البدو الموسمية على أرياف الشام والعراق. لكن الوهابية صارت حركة دعوية وتبشيرية من جرّاء مأسسة العلاقة بين الدعوة والسلطة، وبزوغ ريعية الدولة والمجتمع نتيجة عوائد الثروة النفطية السعودية، وفي سياق الصراع بين المحور المصري والمحور السعودي في ستينيات القرن المنصرم، والاستغلال الاستعماري الغربي للوهابية في محاربة المحور الراديكالي العربي بزعامة جمال عبد الناصر ومحاربة اليسار والشيوعية باسم الإسلام. ويعقد الكاتب مقارنة مهمة بين الوهابية الأولى والسلفية الجهادية المعاصرة، ويستعيد مشاهد دخول الوهابية إلى كربلاء في عيد الغدير في 22 نيسان/ أبريل 1802 وذبحهم كل من لقيهم في طريقهم كالشيوخ والنساء والأطفال، ونهب كل ما وقع في أيديهم بما في ذلك المرقد المقدس. وكذلك دخول سعود بن عبد العزيز إلى مكة في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1802 وإعدامه قاضي المدينة منيب أفندي ومعه عشرون من المشايخ، علاوة على هدمه القباب والمشاهد التركية.
يمثّل هذا الكتاب مساهمة مهمة على المستويين النظري والتحليلي التاريخي النقدي في فهم ظاهرة السلفية على مختلف اتجاهاتها، ويتميز بقدراته التفكيكية للمفاهيم الشائعة والمبسّطة القارة عنها، متحديًا لها، وفاتحًا أفق معرفة جديدة بها.