صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من "سلسلة دراسات التحول الديمقراطي" كتاب العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الأول حالات عربية ودولية، لأحمد إدعلي وآخرين، وهو من تحرير عبد الفتاح ماضي وعبده موسى. يتألف الكتاب من 376 صفحة، ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.
لم تشهد دولنا العربية أي تجربة مكتملة وناجحة للعدالة الانتقالية، وكان هذا طبيعيًا في ظل شيوع التسلُّطية وتعثُّر حركات الإصلاح في كثير منها. واستمرت هذه الحال في أعقاب ثورات عام 2011، مع ظهور بعض المحاولات الجزئية، ما فتح أبواب الأجندة البحثية على عدد من الأسئلة التي تتناولها فصول هذا الكتاب، منها: كيف يمكن التعامل مع مطالب ضحايا انتهاكات الأنظمة القديمة بتحقيق العدالة وكشف الحقيقة واستعادة الذاكرة وجبر الأضرار؟ وما المصالحة؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف تزامنًا؟ وكيف يمكن التوفيق بين محاسبة منتهكي حقوق الإنسان في الأنظمة القديمة واستقرار النظام الديمقراطي الوليد؟ وما العمل مع من كانوا جزءًا من مؤسسات القمع في الأنظمة السابقة؟ وما ضمانات عدم تكرار تلك الانتهاكات؟ وما طبيعة الإجراءات التي اتُّخذت في التجارب العربية المحدودة؟ ولِمَ أخفقت؟ وهل يمكن العدالة الانتقالية أن تكون مدخلًا لانتقال ديمقراطي وتحقيق مصالحات سياسية واجتماعية شاملة في بعض الدول العربية؟
لماذا ينبغي مفهمة العدالة الانتقالية في البلدان العربية نظريًا وتجريبيًا؟
أصبح واضحًا أن العدالة الانتقالية، من الناحية النظرية ووفقًا لتطبيقها في سياقات محددة، لم تُطبّق دائمًا بصرامة؛ لذلك يجب المواظبة على التحقق من فاعليتها، وكذلك تطبيقها ضمن حالات معينة، ولا سيما آلياتها. فالدول، عندما تضع آليات العدالة الانتقالية، تراعي في تصميمها مجموعة مزايا مرتبطة بحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذا أمر بالغ الأهمية، لا سيما أنّ كثيرًا من المجتمعات التي تحدث فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تعاني انقسامات قائمة على قضايا الهوية.
وعلى الرغم من أن العدالة الانتقالية لن تتمكن على الأرجح من أداء دور مباشر في إنهاء النزاعات، فإنها تتمكن أحيانًا من أداء دور في تمهيد الطريق للتعامل مع المشكلات في المستقبل. ولكي يحدث ذلك، يجب التشديد على الصلة الوثيقة بين النظرية والعمل الميداني.
يجب تقييم الاختلافات بشأن العدالة الانتقالية، من حيث طبيعتها وتوقيت استخدامها وكيفيته، في ضوء حقيقة أنها تعمل دائمًا في سياق ومناخ سياسي معيّنَين. وفي الأحوال كلها، يتعين فهم هذه الظروف تمامًا، وأن تكون قابلة للتطبيق الكامل، لتحديد مدى إمكانية تطبيق هذا النموذج في سياق آخر. ومن ثمّ، فإن حقيقة أن العدالة الانتقالية هي مسألة سياسية، تأتي من أن القضايا التي تتعامل معها، ومع من تتعامل، والأهداف التي تصبو إليها، والأثر الذي تتركه، تحدث جميعًا في الساحة السياسية. ويجب إدراك أن لذلك آثارًا سياسية عميقة.
وهي لا تُفهم غالبًا على نحوٍ كافٍ، ولهذا السبب فهي قابلة للتلاعب، وقد جرى التلاعب بها في بعض الحالات. وفي الواقع، فإن القرارات التي تتخذها الدول بشأن هذه القضايا هي قرارات سياسية بامتياز. ومن هنا جاء استخدام العدالة الانتقالية لأغراض سياسية، وبسبب هذا التلاعب لحقت بسمعتها بعض الأضرار الجسيمة. لكن مما لا شك فيه أن العدالة الانتقالية خضعت لتحليل نقدي صارم جدًا في الآونة الأخيرة. وقد أثار ذلك شكوكًا بشأن فاعلية مفهوم العدالة الانتقالية والآليات المحددة الخاصة بها، والكفيلة بمعالجة شاملة للفظائع الواسعة المرتكبة في مجال حقوق الإنسان.
وفي الوقت الحاضر، وجزئيًا بسبب الانتقادات التي انتشرت في دراسات العدالة الانتقالية، صار لزامًا على المجتمعات التي تتطلَّع إلى تنفيذ العدالة الانتقالية طرح أسئلة إضافية، من بينها: ما الحقيقة؟ وما المصالحة؟ وكيف ترتبط أهداف الحقيقة والمصالحة والأهداف الأخرى في ما بينها؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف متزامنةً؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف في أعقاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان؟ وإلى أي درجة؟ كما تُثار أسئلة أخرى مثل: متى يجب تطبيق العدالة الانتقالية؟ وهل يمكن تطبيقها حتى قبل الانتقال؟ وهل فاعليتها مشروطة بتنفيذها من جانب الدولة؟ إن الإجابات عن هذه الأسئلة قد تفضي إلى اعتماد نهجٍ أفضل في تحقيق العدالة الانتقالية، إضافة إلى جعلها أكثر قابلية للتطبيق العملي على عدد أكبر من الحالات.
المصالحة والحقيقة في جنوب أفريقيا: بحث في منجزات العدالة الانتقالية ومآزقها
أمست جنوب أفريقيا نموذجًا لبلدٍ استطاع إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي، على الرغم من المخاطر التي كانت تتربّص به. ومثّل نجاح الفاعلين في تيسير الانتقال الديمقراطي في بلد جماعاتي مكلوم ومتعدد الأعراق إنجازًا تاريخيًا مُلهِمًا. فلا غرو إذا تواتر الحديث عن "المعجزة" الجنوب أفريقية. بيد أن نزوع بعضهم إلى أسطرة إنجاز هذا البلد يجب ألا يحجب الهوّة بين التطلّعات المعيارية للفاعلين والواقع، وكيفية توسّل مهندسي العدالة الانتقالية ببراغماتية رجّحت كفة الصفح على مقتضى العدالة، توخّيًا لتثبيت التوافق السياسي. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا التمرين الديمقراطي، الذي جرى في بيئة تحفل بالمخاطر، يساعد في استخلاص بعض الدروس المفيدة لمسلسلات العدالة الانتقالية وتجارب التحول في العالم العربي، وعمومًا للبلدان التي تكون في سياقات الخروج من الدكتاتورية أو ما بعد الحرب الأهلية.
أظهرت تجربة جنوب أفريقيا دور الفاعلين الحاسم، وقدرتهم على تدبير الوضعيات الحرجة. فانتشال البلد من أتون الحرب الأهلية إلى شط السلم المدني، لم يكن ليتحقق لولا انخراطهم في منطق التفاوض وسعيهم للتوافق بشأن النواظم الميسرة عبور الفترات الحرجة. وإضافة إلى دور التوافق الأكسيولوجي للنخب في تذليل الخلافات، اضطلعت القواعد والمبادئ الدستورية بأدوار توجيهية مهمة؛ إذ تشكّلت الديمقراطية الجنوب أفريقية من مبادئ دستورية كانت بمنزلة وصايا يسّرت التئام الأطراف المتنازعة بشأن مائدة المفاوضات. وأضفت هذه النواظم بعدًا عقلانيًا على أداء الفاعلين؛ إذ لم يكن في الإمكان تفكيك التركة الثقيلة لنظام الفصل العنصري والتعامل معها بمنطق القطيعة الجذرية والكنس الشامل، إلا من خلال التغيير المتدرّج.
ويبدو أن لجنة الحقيقة والمصالحة تعاملت مع مشروع العدالة الانتقالية بمنطق الأولويات وتأمين الانتقال السياسي. ولا غرابة إذا اعتبر بعضهم أن ديمقراطية جنوب أفريقيا "كانت ديمقراطية العقل، قبل أن تكون ديمقراطية العاطفة".
قد تبدو جنوب أفريقيا، في وضع مقايضة العدالة بالصفح، أو على الأقل ترجيح كفة الصفح على العدالة، والمستقبل على حساب الماضي. لكن هذا المنزع يعبّر عن منطق يعطي الأولوية لمواجهة تحديات الوضع الجديد عوض النزوع الاسترجاعي إلى مظالم الماضي، كما يكشف عن رؤية عملية للعدالة. ففي مقابل الطابع المثالي للتطلّعات المعيارية للجنوب أفريقيين، تعكس صيغة العدالة التصالحية جوابًا واقعيًا عن سؤال: ما العدالة؟ يبدو أن مهندسي تلك الصيغة نأوا عن رؤية كانطية متعالية، وعن المثالية التي تتخلل رؤية جون رولز، ليتوسّلوا بالرؤية العملية لأطروحة أمارتيا سن، عدالة يمكن الاتفاق على مضمونها، وتساعد في تقليص الظلم بما يسمح بإعطاء فرص أفضل لأطياف "أمة قوس قزح".
تدبير الذاكرة في سياق العدالة الانتقالية دراسة مقارنة للتجربة المغربية
تقع الذاكرة في صلب تدابير العدالة الانتقالية المتعلقة بكشف حقيقة الماضي الأليم، وإعادة قراءته، وإنصاف ضحاياه، وتحقيق المصالحة الوطنية، والعمل على تفادي عودة أساليبه القمعية في المستقبل عن طريق الإصلاح السياسي وبناء المجتمع الديمقراطي.
كان تدبير الذاكرة من أهم أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة لأنها ربطت بها بقية آلياتها، وخاصة في ظل تبنيها العدالة الإجرائية التعويضية بدلًا من العدالة الجزائية. وإذا كانت قد حققت نتائج مهمة في الكشف عن كثير من الحقائق التاريخية المرتبطة بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب في سنوات الرصاص، وعلى مستوى سماع شهادات الضحايا والإنصاف وجبر الضرر والمصالحة الوطنية، فإن منجزها ظل ناقصًا، ولازمَه النسيان، وذلك لأسباب سياسية. فقد جاءت في سياق الاستمرارية السياسية وفصل العدالة الانتقالية عن الانتقال الديمقراطي الذي يعتبر بمنزلة مرحلة انتقالية محددة زمانيًا تتضمن مجموعة من الترتيبات والإجراءات التي تهدف إلى الانتقال من دولة سلطوية إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وفي خضم المعضلات التي عرفتها العدالة المتعلقة بجرائم الدولة، وفي إثر التراكمات التي حققتها تجارب العدالة الانتقالية التي تأكد من خلال نماذج منها أنها وجدت، بتفاوت بين الحالة والأخرى، صعوبات في إنجاز المهمات المناطة بها، بما فيها التجارب التي أحدثت في سياقات القطيعة والثورة. وتبيَّن من خلال التطورات التي عرفها المغرب، بعد إنجاز عدالته الانتقالية، أنها أسهمت في التحول الديمقراطي بوصفه عملية تراكمية وصيرورة معقدة تستهدف دمج الديمقراطية في المنظومات السياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية وتحويلها إلى ثقافة وسلوك لدى الأفراد والجماعات. لكن هذا التحول ظل بطيئًا وغير منتهٍ ورهين صراع بين ديناميتين، الأولى إصلاحية والثانية محافظة. ومن ثمّ، فإذا كان المغرب قد اجتاز، مقارنةً بالكثير من دول محيطه العربي الإسلامي، أشواطًا كبيرة على سكة التمهيد للانتقال الديمقراطي، فإنه يعرف في الوقت نفسه بعض المؤشرات التي تعاكس ذلك.
العدالة الانتقالية في ليبيا: تشريعات عدة بلا مردود في الواقع
عانى الليبيون، أفرادًا وجماعات، انتهاكات ممنهجة لحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خلال حقبة العقيد معمر القذافي. وتسبب الانهيار السريع للنظام مع نشوب الثورة، إلى جانب التفتُّت الاجتماعي والثقافي، في الكثير من المظالم المجتمعية. وعقّد الواقع الاستثنائي للدولة الليبية، بعد عقود من هيمنة القذافي، جهود إنشاء منظومة للعدالة الانتقالية في ليبيا بعد الثورة؛ فلم تقتصر انتهاكات حقوق الإنسان على فترة حكم النظام السابق، إنما تبعها العديد من الانتهاكات التي يرقى معظمها إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الأهلية وبعد إطاحة النظام. ويضاف إلى ذلك مشكلة الميليشيات والجماعات المسلحة؛ ما عرقل جهود نزع السلاح وتحقيق العدالة والمحاسبة. يفاقم ذلك كله فشل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة في إحكام سيطرتها على الأوضاع الأمنية، وتورّط جهات تابعة لها في عدد من الانتهاكات، بما في ذلك استمرار الاعتقالات والاحتجاز غير القانوني والتعذيب والقتل خارج القانون.
ليست ليبيا فريدة في ذلك بين الدول، فمنذ تسعينيات القرن العشرين، شهد العالم سلسلة من عمليات الانتقال السياسي، وكافح من خلال هذه العمليات، وما يسبقها ويرافقها من إشكالات تتعلق بالأفراد والدول، للتغلب على تركة ثقيلة، "تراوح بين الاغتصاب والعنف المنزلي، والفظائع الجماعية للحروب القذرة والإبادة الجماعية والصراعات العرقية التي ترعاها الدولة".
فكيف يمكن إيجاد التفاهم الاجتماعي بشأن نظام جديد يرتكز على سيادة القانون؟ وما التحركات القانونية التي لها أهمية في تغير شكل المجتمع والدولة وجوهرهما؟ وما علاقة تعامل الدولة مع ميراثها من القمع وآفاق إيجاد نظام ليبرالي؟
بناء على ذلك، تتضح الأهمية القصوى للعدالة الانتقالية في ليبيا؛ فهي مفتاح استقرار هذه الدولة. كما أن التجربة الليبية ذات قيمة استثنائية بالنسبة إلى برامج العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع في المنطقة في دول مثل اليمن وسورية.