في الجزء الأول من كتابه ثورة مصر المعنون من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (720 صفحة، من القطع المتوسط)، يستنفد بشارة أدوات بحث متعددة وجهدًا استقصائيا لفهم حقبة بالغة الأهمية من التاريخ المصري الحديث.
في تقديمه كتابه هذا، يقول بشارة إنّ الغرض منه إنتاج بحث توثيقي عن ثورة مصر 2011، وهذا محور الكتاب الذي يبدأ بعرض تاريخي لفهم السياسة والمجتمع والجيش في مصر، محدّدًا بصعود جمهورية يوليو وأزمتها التاريخية في نهاية عصر مبارك، معترفًا بصعوبة كتابة مقدمة تاريخية للثورة المصرية، لأنّ التاريخ المصري غير مجهول، ولكن الكتاب يعيد سرده بطريقة مختلفة ملقيًا الضوء على زوايا مهمة متعلقة بطبيعة النخبة السياسية والتحولات الطبقية في مصر وعلاقة الجيش بالسياسة، وجذور الاستبداد وجذور الاحتجاج. وبعد عرض تاريخي تحليلي للثورة، تتمحور المهمة الرئيسة في الجزء الأول من الكتاب على تأريخ مسيرة الاحتجاج حتى 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وما بعده، حتى 11 شباط/ فبراير 2011 وفقًا لمقاربات التاريخ المباشر، ما استدعى غوصًا في تفصيلات الحراك الثوري، توثيقًا وتحليلًا، لتقديم مرجع أكاديمي توثيقي للقارئ، سواء أكان مواطنًا مهتمًا بالشأن العمومي أم باحثًا.
في الفصل الأول خلفية تاريخية موجزة، يوجز بشارة الخلفية التاريخية التي أدت إلى اندلاع ثورة 23 تموز/ يوليو 1952. ويقول لو كان على ثورة 25 يناير صوغ ذاتها بجملة واحدة لنطقت "مصر للمصريين فعلًا"، أي لكلّ المصريين لا لبعضهم، في استعادةٍ تاريخية لثورة المصريين ضد رهن مصر للديون الأجنبية، حين رفعوا شعار "مصر للمصريين" أول مرة، في أيام الوصاية الإنكليزية. ويستعرض التطور الذي عرفته القوات المسلحة المصرية من مؤسسة لا تتدخل في الشأن الداخلي إلى عنصر مؤثّر في القرار، توّج تأثيره هذا بثورة الضباط الأحرار. ثم يعرض بشارة بداية المرحلة الناصرية، وقرارات إلغاء دستور عام 1923، وحظر الأحزاب، وإنشاء هيئة التحرير، وصفقة الأسلحة التشيكية، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، وإعلان الوحدة المصرية – السورية، والانقسام بين إعادة الحكم إلى المدنيين وإبقائه في أيدي العسكريين، ورفض مصر الانضمام إلى حلف بغداد، ونكسة 1967 وتنحّي عبد الناصر ثم عودته، وحرب الاستنزاف.
في الفصل نفسه، يسهب بشارة في وصف خيارات جمهورية يوليو، منطلقًا من أنّ ثمة "عناصر كثيرة مشتركة بين عهود مبارك والسادات وعبد الناصر، من حيث بنية الدولة والنظام الأمني السائد فيها ووجود حزب حاكم متداخل مع بيروقراطية الدولة، إلى جانب ملامح تدفعنا إلى القول إنّ هذه النظم الثلاثة في حقيقتها جمهورية واحدة، هي جمهورية 23 يوليو". ثم ينتقل إلى محمد أنور السادات والسلام مع إسرائيل وخروج مصر من دول المواجهة العربية، والتراجع داخليًا عن النظام الاشتراكي، وصولًا إلى مقتل السادات، وتبوّؤ حسني مبارك سدة الرئاسة، لتنتقل مصر بعدها إلى عهد حزب الرئيس، والاعتماد على الجيش والأمن لحفظ النظام، والتحالف مع الولايات المتحدة. ينتقل بشارة بعدها إلى تناول التحولات في الجيش المصري: من هيمنة العسكر وتداخل سلطات الجيش والرئيس، إلى خضوع الجيش لمنصب الرئاسة، إلى استقلالية الجيش، ثم يتناول الجانب الاقتصادي مسلّطًا الضوء على اللبرلة الاقتصادية والسلطوية السياسية في مصر، وانتقال السلطة والمجتمع من التعاضدية الناصرية إلى تكريس الزبائنية، وصعود طبقة رجال الأعمال، انتهاءً بتردي الأوضاع الاجتماعية في عهد مبارك.
يقدّم بشارة في الفصل الثاني، لم يكن شعب مصر خاملًا قبل 25 يناير: موجز تاريخ الاحتجاجات في مصر الحديثة، سردًا بالأسماء والوقائع التامة لحركات الاحتجاج في التاريخ المصري الحديث بعد ثورة 23 يوليو، حتى مقتل خالد سعيد، الشرارة التي أشعلت نار 25 يناير، من دون أن يؤرخ لها، كما يقول. يورد نظرة سريعة، بعيدة عن الإحاطة بتاريخها كلّه، ويتوسع في التفصيلات كلما اقترب من 25 يناير، فللاحتجاج في العقد الأخير من عهد مبارك علاقة مباشرة بتفجر الموجة الثورية في 25 كانون الثاني/ يناير 2011.
يسرد بشارة في هذا الفصل وقائع الاحتجاجات المصرية ما بعد ثورة الضباط الأحرار، أي في عهدَي عبد الناصر والسادات، ثم وقائعها في عهد مبارك، ثم يتوسع في السرد والرواية والتحليل في العقد الأخير من عهد مبارك ونشوء الحركات الاجتماعية الجديدة مثل الحملة الشعبية من أجل التغيير (الحرية الآن)، وحركة كفاية وغيرهما، مبوبًا الاحتجاجات فئويةً سياسيةً واجتماعيةً واقتصاديةً، متناولًا دور القضية الفلسطينية في تسعير هذه الاحتجاجات، ودور شباب الإخوان المسلمين والحركة العمالية وحركة 6 أبريل في الحراك الجديد، ودور المدونين والطفرة التقانية في تحشيد المحتجين وتوجيه بوصلة الاحتجاج، وانطلاق حركة شباب من أجل العدالة والحرية ودور الجمعية الوطنية للتغيير. في الفصل نفسه، يستعرض بشارة تفصيلات خاصة بمنظومة القمع والتعذيب في مصر، وإرادة التعذيب، وفضيحة التعذيب بالوكالة، وسبب إضافة المحتجين تعبير الكرامة الإنسانية إلى العيش والحرية في شعارهم الوطني، انتهاءً بتصاعد وتيرة الرفض الشعبي بعد مقتل خالد سعيد.
يدقّ بشارة في الفصل الثالث، ثورة 25 يناير: العبور الكبير من الاحتجاج إلى الثورة - تاريخ وتوثيق، باب التاريخ المصري المعاصر الذي ما بردت الدماء المسفوكة في أثنائه بعدُ، ناقلًا يوميات ثورة مصر بالكلمة والتسجيل والرواية من أفواه من صنعوا الثورة أنفسهم، لحظة بلحظة، فيرسم خريطة كاملة للاحتجاجات والمسيرات والتظاهرات والاشتباكات والاعتقالات يومًا بيوم، مبتدئًا من التحضير الحثيث لتظاهرات 25 يناير وتحوّل الأمر من دعوة تقليدية للتظاهر في عيد الشرطة – 25 كانون الثاني/ يناير من كلّ عام – إلى دعوة لقلب النظام القائم، بعدما أشعل هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي من بلاده بفعل ثورة الياسمين، الحماسة في قلوب الشباب المصري، على اختلاف انتماءاتهم.
يسرد بشارة بالتفصيل حوادث يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وتوسّع التظاهرات والمواجهات مع الشرطة والأمن المركزي في 26 و27 و28 كانون الثاني/ يناير، وتحرّك النخبة المصرية على وقع الحراك الشعبي، ثم ولادة عهد المسيرات المليونية ابتداءً من جمعة الغضب، في يوم 28 كانون الثاني/ يناير، وإخلاء الشرطة والأمن الساحة للبلطجية قبل انتشار الجيش المصري بعدما شكّل المواطنون لجانًا شعبية لحماية منازلهم ومرافق الدولة، وعلى رأسها المتحف، من موجة النهب التي سرت آنذاك. يعرض بشارة ولادة جمهورية التحرير، نسبةً إلى ميدان التحرير مهد الثورة، ثم يُثبت وقائع موقعة الجمل (2-3 شباط/ فبراير 2011) التي ما زالت موضوع أخذ وردّ حتى اليوم، ونشوء ائتلاف شباب الثورة بعد جولة حوار أولى مع السلطة، ثم جولة ثانية قصيرة جدًا في 6 شباط/ فبراير، وأخيرًا رحيل النظام في 11 منه.
لم تقف حوادث ثورة 25 يناير عند حدود القاهرة، بل امتدت نارًا في هشيم المحافظات المصرية كلّها. في الفصل الرابع من الكتاب، يوميات الثورة المصرية في المحافظات خلافًا للانقلاب... لم تقتصر الثورة على القاهرة، يتطرق بشارة إلى موضوع الحراك الثوري في المحافظات المصرية الذي لم تُعالجه الدراسات التي تناولت الثورة المصرية حتى الآن، معتمدًا على شهادات ناشطين، مكتفيًا بالإحاطة بالمشهد الثوري في المحافظات المصرية، وبخلفياته الاجتماعية والاقتصادية، من دون أن يخصّص بحثًا أو كتابًا بذاته لهذا الموضوع، إنما يأتي إتمامًا للصورة الكبيرة، لا أكثر.
وكما تناول بشارة يوميات الثورة في القاهرة، يتناولها هنا بالتفصيل نفسه في المحافظات مع بعض الإشارات إلى سماتٍ خاصة بكلّ محافظة؛ كمشاركة الحراك النقابي في المحلة الكبرى واستيلاء الريف على الثورة فيها، واعتزاز أهالي السويس بإرثهم المقاوم منذ أن صدّوا العدوان الثلاثي ورفضهم التهميش الدائم، وثأر الإسكندرية لتاريخها العريق من تهميش النظام الدائم، وعودة أهالي أسوان إلى الاهتمام بالشأن العمومي بعدما تركوه. يكتب بشارة: "منحت مشاركةُ المحافظات الثورةَ طابعَها الوطني الشامل، فلم يقتصر دور هذه المحافظات على ما يسرده الناشطون، لأن قسمًا كبيرًا ومهمًا من المشاركين في ميدان التحرير، ولا سيما بعد جمعة الغضب، جاء إلى العاصمة من المحافظات؛ إذ توجّه أبناء هذه المحافظات إلى القاهرة للمشاركة في التظاهرات، لأنهم أدركوا أن فيها يُحسم صراعُهم مع النظام".
يخصّص بشارة الفصل الخامس في هذا الجزء من كتابه لشباب الثورة، فيعنونه عن شباب الثورة: أرقام ذات مغزى، جامعًا فيه أسماء 333 شابًا حضّروا لتظاهرات 25 يناير، أو عملوا في شبكاتها التنظيمية، أو برز عملهم التنظيمي القيادي خلال الثورة، وأدرجها في قوائم تتضمن معلومات عن تحصيلهم العلمي وعملهم وانتمائهم السياسي. يكتب بشارة شارحًا: "الناشطون في أغلبيتهم مسيّسون ومتأثرون بتيارات فكرية منوعة، إسلامية ويسارية وليبرالية وقومية وغيرها. لكنهم، خلافًا للأحزاب التي مثّلت تياراتهم في الماضي، نجحوا في تجاوز الأيديولوجيات إلى القيم الأخلاقية في السياسة، وإلى التعاون والاتفاق على هذا الأساس".
يضيف بشارة: "كان القسم الأكبر منهم غير حزبي، وإن كان عدد منهم منتميًا إلى أحزاب، أو مرّ من خلال حزب إسلامي أو يساري. بعضهم منظّم في روابط واتحادات شبابية وليس في أحزاب، وبعضهم الآخر ليس عضوًا في هذا ولا في ذاك، وهؤلاء سمّيناهم مستقلين. واعتبرنا في التقسيم بعض الناشطين إسلاميًا أو يساريًا، لأن هذا طابعه الفكري الذي صرّح به، أو عُرف به من خلال نشاطه داخل المجموعات الشبابية، لا لأنه عضو في حركة أو تنظيم. فهو مستقل حزبيًا إذا صح التعبير، لكننا صنّفناه يساريًا أو إسلاميًا أو غيره". ويختم بشارة هذا الكتاب بقائمة بالمقابلات التي أُجريت مع الناشطين، وألّفت العمود الفقري لهذا العمل التوثيقي، وبفهرسٍ عامّ شامل.
ألّف عزمي بشارة هذا الكتاب جامعًا هذا الفيض من المعلومات والوثائق، وهو مؤسس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومديره العام، ومؤسس معهد الدوحة للدراسات العليا.